الكاتب المغربي لحسن العسبي يكتب : هل هي عودة زمن جنون الإمبراطوريات الكبرى؟
رمى أمس الأول الثلاثاء 7 يناير 2025 الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب (حتى قبل تسلمه مهامه بالبيت الأبيض رسميا يوم 20 يناير 2025) بحجر كبير في بحر السياسة العالمية القوي التيارات، حين عبر في لقاء صحفي عن حق واشنطن في امتلاك جزيرة غرينلاند مشككا في صلابة وحجية وثائق تبعيتها سياديا إلى مملكة الدنمارك , بل زاد من الشعر بيتا حين طالب بإعادة ترتيب خرائطية لكامل القارة الأمريكية الشمالية من بنما حتى غرينلاند مرورا بكندا، التي اعتبر أنها مجال حيوي لأمريكا من حق بلاده ضمها إلى مجالها الجغرافي سياديا.
من الوهم الإعتقاد أنها واحدة من شطحات الرئيس ترامب أو من زلات لسانه الإعلامية (هو المعروف بخرجاته التي تتعمد منطق الإثارة تواصليا) , فالرجل يتحدث بلسان المستقبل.. المستقبل غير البعيد عكس ما نعتقد.
إن خرجة ترامب تعطي أول الغيث لما يتم الترتيب له من خرائط جيو ستراتيجية جديدة في العالم بمنطق القرن 21، يمكن لنا الجزم على أنها تدشين غير مسبوق لعودة “نظام الإمبراطوريات الكبرى”.
لنبسط الأمر..
تاريخيا، منذ سنة 1492، تاريخ اكتشاف القارة الأمريكية، وتاريخ مغادرة العرب والمسلمين لدورة الإنتاج في العالم مع سقوط غرناطة وفقدانهم معبر جبل طارق بعد أن سقطت سنوات قبل ذلك مدينة سبتة المغربية سنة 1415 في يد البرتغال الذين سيسلمونها للإسبان وبقيت محتلة من قبل مدريد إلى اليوم..
تاريخيا، منذ 1492 أصبحت الريادة في العالم للأمم والدول التي صارت سيدة البحار، حيث كانت البداية للإسبان والبرتغاليين قبل أن تزيحهم بريطانيا العظمى عن عرش قيادة العالم بتحكمها في كل بحار الكرة الأرضية لثلاثة قرون كاملة، قبل أن تأتي الولايات المتحدة في القرن 20 لتسقط العرش البريطاني من السيادة على البحار وتصبح الأساطيل الأمريكية سيدة المحيطات إلى اليوم.
مع مطلع القرن 21، بدأت الصين تطل برأسها لاقتناص حقها من السيادة على البحار ضمن مجالها الحيوي آسيويا في بحر الصين بالمحيط الهادئ، حيث إنها أصبحت تصنع حاملات طائرات جد حديثة وفاعلة ومنافسة , على القدر نفسه الذي أصبحت معامل بناء السفن (بمنطقة هايديان) واحدة من أضخم وأشرس الشركات العالمية في مجال الصناعات البحرية التي مكنت بكين من أن ترتاد سفنها وغواصاتها كل بحار العالم (جزء منها أصبح شبه قار قرب المياه الكندية ومياه جزيرة غرينلاند).
إن التطور الجديد في عالم القرن 21، هو بداية الذوبان المتسارع لجليد القطب الشمالي للكرة الأرضية، مما أصبح معه شبه يسير ميلاد طرق بحرية جديدة بين القارتين الآسيوية والأمريكية الشمالية (وفي جزء منها دول شمال القارة الأروبية الأسكندنافية). وهذا انقلاب كلي في منطق التوازنات الجيو ستراتيجية والإقتصادية والتجارية بالعالم، يفتح الباب لتسابق محموم بين القوى العالمية المالكة للقدرة التكنولوجية والعسكرية للتحكم في البحار، التي هي واشنطن، موسكو وبكين.
لهذا السبب فإن خبراء الدراسات الإستراتيجية والأمنية بالولايات المتحدة الأمريكية، أصبحوا يعلنون بوضوح أن كلا من كندا وجزيرة غرينلاند جزء من المجال الحيوي للأمن القومي الأمريكي. وأنها بالتالي يجب بكل الطرق (سلمية أو حربية.. بالتفاوض أو بوضع اليد) أن تصبح جزء من مجالات السيادة الأمريكية. وبدأت تبرز عبارة “تحريك الحدود” بتواتر في واشنطن.
إن أول العناوين على ذلك الخريطة التي قدمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي تتحكم من خلالها بلاده في المعابر الحيوية المندرجة ضمن المجال الأمريكي القريب جغرافيا من قناة بنما جنوبا حتى جزيرة غرينلاند والطريق البحرية الجديدة في القطب الشمالي بين ألاسكا والنرويج مرورا بالشمال الكندي الممتد. ترجمانا على خريطة إمبراطورية غير مسبوقة لدولة الولايات المتحدة الأمريكية، بالشكل الذي سيغير لأول مرة من العقيدة الأمريكية التي ظلت تتأسس على عدم الإحتلال أو أن تصبح قوة استعمارية (لم يعد الرئيس الأمريكي مونرو هنا بمبادئه الشهيرة).
المثير هو أن الحكومة الدنماركية أعلنت أنها مستعدة للتفاوض مع واشنطن بخصوص مستقبل جزيرة غرينلاند، مما سيسجل لسابقة في تاريخ منظومة الحلف الأطلنتي حيث ستحتل قوة غربية أطلنتية أراض أطلنتية.
كخلاصة سريعة مختصرة جدا، فإن عالم العقود القادمة سيكون عالم تنافس (وتسابق) بين ثلاث قوى عظمى بروح التأسيس جغرافيا لإمبراطوريات جديدة في العالم، يمكن تسميتها إجرائيا ب:
– الإمبراطورية الجغرافية الأمريكية (تتوسع فيها واشنطن شمالا وجنوبا)
– الإمبراطورية الجغرافية الروسية (بداية التدشين مع احتلال شرق أوكرانيا أروبيا، في انتظار مجالات جغرافية في الجنوب الروسي آسيويا)
– الإمبراطورية الجغرافية الصينية (استعادة التايوان وكل المجال البحري لبحر الصين الكبير)
لكل واحدة من تلك الإمبراطوريات مجال نفوذها السيادي ضمن محيطها الجغرافي عبر التحكم في البحار والمحيطات (المحيط الهادئ للصين وأمريكا/ بحر الشمال الجديد لروسيا وأمريكا/ المحيط الأطلنتي لواشنطن). بكل ما يستتبعه ذلك من إعادة ترتيب غير مسبوقة لأمرين:
1- منظومة التجارة العالمية (ربما هي بداية نهاية كل المنظومة التجارية والمالية لما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945، التي بلغت مداها مع خلق تنظيم منظمة “الغات”. ثم تطورات اتساع منظومة “البريكس”).
2 – إعادة هيكلة شمولية لمنظومة المرجعية القانونية للعلاقات الدولية كما تجسدها منظمة الأمم المتحدة بكل آلياتها القانونية والتنظيمية (مؤكد أن العالم أصبح أمام أبواب منظمة أمم متحدة جديدة ومجلس أمن جديد وقيادة عالم جديدة).
هنا يحق لنا السؤال:
أين هي أروبا وإفريقيا من كل هذه التطورات (سيكون من العبث طرح السؤال عن العرب أو المسلمين)؟.
إن الجواب مرعب لأمم أروبا، ليس فقط لأنه يجعلها خارج منطق صراع الجبابرة للإمبراطوريات الجديدة، بل لأنها مرشحة لأن تدخل غابة من التطرف السياسي اليميني الذي سيعيد القوميات العنيفة بداخلها خلال العقود العشرين القادمة، مما سيضعف الوحدة الأروبية هي التي تخلت بعمى تاريخي عن عمقها المتوسطي وعن التحكم في معابره الإستراتيجية (معبر جبل طارق/ معبر قناة السويس/ معبر البوسفور/ معبر باب المندب). في مقابل ميلاد مأمول غير مسبوق للقارة الإفريقية التي ستكون إيلدورادو الإمبراطوريات الثلاث الجديدة تلك، كونها تمتلك ثلاث أوراق حاسمة (نسبة عالية من الشباب واليد العاملة/ خزان هائل من المعادن/ سوق تجارية واستثمارية تنمويا ومجاليا بكر).
هل هي شمس جديدة ستشرق على البشرية بروح ملامح ميلاد إمبراطوريات عظمى جديدة، ستغير خرائط وحدودا في العالم، على قدر ما ستغير المرجعيات التنظيمية للقوانين الدولية؟.
يا له من اجتهاد ينتظر العقل البشري (لا أريد أن أقول من حمق وجنون السياسة).
يا له من امتحان ينتظر منظومات القيم الكونية.
هل يكون إيلين ماسك هو جون مينارد كينز العالم الجديد؟
إقرأ المزيد :
لحسن العسبي يكتب : المرابي بنيامين نتنياهو ولعبة الشطرنج الكبرى