أخبار عاجلةالرأي

الدكتور أيمن السيسي يكتب : في محبة حماه الله

لم ألتق بالرجل في حياتي سوى مرَّةٍ واحدة ، بعد ندوة في المركز الثقافي المغربي اصطحبني إليها صديقي الكاتب أحمد جدو بصحبة جمال عمر ، عرَّفاني عليه لم نستغرق كثيرًا من الوقت في الحديث ، ولم أحتج سوى بضع كلمات من فمه لكي أوقن أنَّ الرجل حماه الله ولد السالم مغلَّف بالتعالي والنرجسية وحاد وغير محتمل ، وهو ما سمعته من كثيرين لايحبونه أو لا يحبون طريقته ، فعنفه وأنانيته وحدته وتصرفاته العجيبة غير المقبولة جعلت منه شخصًا منفِّرًا .

وقتها – ديسمبر 2012 – قبل أن أغادر نواكشوط أهداني أحمد جدو كتابه المجتمع الأهلي ،وقبلها بشهر قبل انطلاقي إلى تمبكتو منحني أستاذي العالم الجليل محمد ولد البرناوي كتابه ( الخلاف والاختلاف والاستخلاف ) عن سيدنا الشيخ محمد المامي مع كتاب (الإمارات والنظام الأميري) للدكتور محمد المختار ولد السعد،وبعد عودتي من تمبكتو منحني أستاذي المفكِّر والأديب الكبير محمد ولد أحظانا سفره المهم والرائع « معقول اللامعقول « هذه الكتب الأربعة مع أيام كثيرة عشتها في منزل أحظانا في نواكشوط ، ثم في منزل عبد الله ولد سيدي حننا في باسكنو كانت نوافذي على موريتانيا وأبوابي إليها فأحببتها وجنحت لتوجيه أستاذي العظيم ولد البرناوي لجعلها مادة رسالتي لنيل شهادة الدكتوراة ؛ فبدأت في جمع المادة مصادر ووثائق ومراجع ومخطوطات ، ومنها كتابات حماه الله ولد السالم فأخذتُ بها وبه وفتنتُ بهما _ رغم بعض ملاحظاتي عليها ولكنها ملاحظات تلميذ – و أعجبني دقة تخصُّصه التاريخيّ وبحثه وتدقيقه ودأبه ،حقيقةً فتنتُ بالرجل العالم ، وكلما ورد ذكره في مجلس أثنيت عليه ، وهزأوا منه ، وتندروا على جنونه ، وحالاته المزاجيَّة المتقلِّبة ، ومسائله الشخصيَّة وغيرها من تعاملاته الحادة مع المحيطين به ،ولا أدري لماذا طاف على ذهني الراحل العظيم دكتور جمال حمدان صاحب شخصيَّة مصر دراسة في عبقريَّة الزمان والمكان وأنا أكتب عن حماه الله ، فجمال حمدان كان هادئًا وانعزاليًّا أكثر من حماه الله لدرجة انه أغلق عليه بابه وقبع في شقته في ميدان المساحة بالدقي يخدم نفسه- لم يتزوج – واستقال من الجامعة احتجاجاً على الفساد الإداري وتغلغل الواسطة وعدم تقدير إدارة الجامعة له، وظلَّ في شقته يعيش حياة بدائية بعيدًا عن أدوات العصر الحديث من ثلاجة كان بديلها (القلة )وبوتجاز كان بديله وابور الجاز ، يستعين على طعامه بهذه الأدوات البدائيَّة منكبًا على علمه وكتاباته ،لا يفتح بابه إلا لطارق يدق دقات معينة تعني أنه من المسموح لهم بالزيارة و سر الدقات على الباب لم يكن يعرفه إلا قليلٌ ،ظلَّ هكذا إلى أن اغتاله اليهود عام 1996 قبل أن ينجز موسوعة عن الصهيونية واليهود كان الرجل يملك مفاتيح الجغرافية كما يمتلك حماه الله مفاتيح التاريخ عالمًا كبيرًا ومحقِّقًا فذًّا ونابهًا عظيمًا هذا الرجل أعطى للعلم الموريتاني والتاريخ المحضري والفقهي نافذة واسعة للخارج وعلى الخارج ،حبَّبنا في موريتانيا وتاريخها وأسهم في أسري واستلابي لهذا البلد ،ولكن كثيرًا ما تمضغه الأفواه في نواكشوط بالنقد والتجريح والنعت بالجنون …
قد يكون الرجل كما يقولون حاد الطباع أنانيًّا ، ولايحتمل ، وعجيب الأطوار ، قد يكون ..لكن المؤكَّد أنَّه عالم فذ وثروة قومية لموريتانيا والعرب فحافظوا عليه قبل أن تفقدوه ونفقده جميعًا كما فقدنا جمال حمدان ، صحيح أنَّه يلقي بأحجاره ضد الجميع ينتقد المجتمع ويهاجم الماسونيين الموريتان ويهاجم حتى الأنظمة العربيَّة هذا رأيه حاجوه بالحجة ولكن لا تقتلوه ، ستندمون كما ندمنا في مصر على قتل جمال حمدان ثم جئنا على إثره لنبكي عليه ونعلي قدره ونقول إنه كنز مصر أو «خبيئة مصر «كما عنون صديقي وأخي وزميلي الباحث الكبير الدكتور السيد رشاد كتابه الأخير المهم عن جمال حمدان ، أقول للإخوة في موريتانيا وعلى رأس ثقافتها وإعلامها أخي وصديقي المثقَّف الكبير والصحفي البارز الدكتور الحسين ولد مدو وزير الثقافة وهو أفضل وزراء الثقافة الذين مروا على هذي الوزارة المهمة في موريتانيا ، جاء من الحقل الثقافي ويعرف قدر المثقفين والأكاديميين والعلماء والذي أتوقع أن يترك آثارًا لعقود طويلة على المشهد الموريتاني بأكمله وليس الثقافة فحسب ، أقول له ولكل إخوتنا في موريتانيا اهتموا بحماه الله ولد السالم ،دعكم من جنونه وحدته ، هيئوا له ما يستعين به على التفرغ للإبداع فهذه العقلية قلَّما تجود بها أرحام العرب خصوصًا في هذه الأزمنة الملوثة العقيمة.

 

  • الدكتور أيمن السيسي : كاتب وباحث مصري متخصص في الشؤون الأفريقية .

إقرأ المزيد :

الكاتب الصحفي المغربي لحسن العسبي يكتب : سيحزن الطير تحت غيمة المطر على رحيلها فأحرى بالمغاربة ..نعيمة سميح بحة الجنوب 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »