أخبار عاجلةالرأي

آسيا العتروس تكتب :  السعودية كما رأيتها ..للدين قداسته ..للحياة و الحداثة مسعاها .. المملكة تتجمل وتتحول إلى بوصلة القمم الدولية

هل قرأنا القرآن بعقولنا وفهمنا الإسلام كما ينبغي فهمه ؟ ينظر الزائر إلى السعودية التي تستقبل على مدار السنة وخاصة خلال شهر رمضان ملايين الزوار من المعتمرين من مختلف أنحاء العالم بحثا عن السكينة والطمأنينة و التطهر من الذنوب والتقرب من الله والقيام بشعائرهم الدينية والوقوف في رحاب المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة و زيارة قبر خاتم الأنبياء و صاحبيه أبو بكر وعمر ،  و منه إلى مكة حيث أقيم أول بيت للناس بيت سيدنا إبراهيم فتخال العالم و كأنه تحول إلى واحة للسلام فالكل في خشوع و تجلي وإذا ما نودي للصلاة تسابق الجميع من كل حدب و صوب و استجابوا لدعوة المؤذن لتنظيم الصفوف ورصها لمنع أي منفذ للشيطان بينهم. و إذا ارتفع صوته بالدعاء رددوا معه في انسجام تام و حماس دعوته لنصره الإسلام والمسلمين و الانتقام من الاعداء الكافرين , إذا غلبته العبرة أحسست وكأن كل العيون تدمع خشية و تعبدا لله فلا تدافع ولا تشنج ولا أصوات ترتفع الكل في هدوء وانسجام ونظام و انضباط تعجز كل الأنظمة وكل الأساليب الأمنية في فرضه.

الصفوف في الفضاءات المعدة للصلاة منتظمة و كأنها سطرت بمسطرة فلم تترك مجالا للاعوجاج فيه , مشهد قد تعجز كل لغات العالم في وصف لحظات الخشوع والتجلي والابتهال والتضرع لله فلا تكبر ولا مكابرة ولا استعلاء والكل فقراء وأغنياء بيض أو سود أو غيرهم أيضا متعلمون أو أميون من أصحاب الجاه أو البؤساء متساوون خلال أداء مناسك العمرة في مكة المكرمة هو بالتأكيد مشهد مختلف عما يمكن أن تراه العين في مختلف التجمعات الدينية في العالم و منها الفاتيكان قبلة المسيحيين , أو احتشاد الهندوس على نهر الغانج للتطهر من ذنوبهم أو كذلك السفر الجماعي في النيبال لزيارة مسقط رأس بوذا .

من المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة إلى أول بيت أقيم للناس في مكة المكرمة تتجه أفئدة و قلوب الآلاف المؤلفة من زوار المملكة لأداء مناسك العمرة في أجواء مناقضة تماما لما نعيش على وقعه في العالم العربي و الإسلامي و كأن المتوافدين على البقاع المقدسة لا ينتمون في شيء لعالمنا حيث تعودنا على الشقاق و النفاق والخذلان و حيث القوي يمتهن الضعيف و حيث الجهل و التخلف ينتشر مع انتشار الأوساخ التي لا تغيب عن مدينة أو حي و حيث وحدة الصفوف من الاوهام .. الكل سواسية في حضرة الخالق و الكل يتنافس في طاعته و ارضاءه و في مساعدة من يحتاج للمساعدة, فإذا بدا و أن مسنا تعثر في طريقه أو تاه أو أراد الوقوف امتدت كل الأيدي لتسنده و إذا احتاج أحدهم شربة ماء تدافع الكل لتلبية حاجته حرصا منهم على نيل الثواب.

و قد تبدو كل هذه التصرفات من المشاهد الطبيعية في أكثر الأماكن طهرا و قداسة في العالم أو على الأقل كما يعتقد معشر المسلمين الذين يعدون أكثر من ملياري مسلم في الدول العربية و الإسلامية حتى أنك لا تكاد تصدق و أنت تستعد لمغادرة البقاع المقدسة بعد تجربة روحانية فريدة أخذتك بعيدا عما يجري في العالم و تعود شيئا فشيئا إلى طبيعة الحياة اليومية التي دأبنا عليها و تصدمك الأخبار السوداوية و التسجيلات الدموية التي تتناقلها قنوات العالم عما يحدث” لخير أمة أخرجت للناس” من اقتتال جماعي و اراقة للدماء في الشهر الحرام بين المسلم و المسلم و من امتهان و تحقير لإنسانية الإنسان وتدمير للأوطان و تقسيم للصفوف و خذلان لأمهات القضايا العربية المصيرية .

نتحدث طبعا عن المأساة التي عاشت على وقعها سوريا خلال الساعات القليلة الماضية مع إنطلاق يد القتل و الفتك الداعشية في الساحل السوري لتفتك خلال يومين بأكثر من ألف من المواطنين السوريين من الطائفة العلوية و بينهم رجال و نساء و شباب و أطفال يحدث ذلك باسم الدين و على وقع صيحات التكبير و التهليل فرحا و ابتهاجا بتحقيق نصر الله لإبادة العلويين ,طبعا كل الأسباب و المبررات قائمة لتبرير ما حدث فالأهم أن نظام الأسد البائد سقط , فأي نصر هذا الذي ينسب للإسلام و للدين و يسعد به من يعتبرون أنهم قادة جهاد العصر .

مأساة سوريا تأتي لتعمق الجراح و تفاقم الألم من الضفة المنسية و غزة الغارقة في الدمار و الخراب و الموت إلى السودان الذي يغرق كل يوم أكثر في الجوع و التشرد و فوضى السلاح و إلى كل المخاطر الأمنية التي تهدد المنطقة في سيادتها و استقرارها أمام زحف الإحتلال الاسرائيلي المدعوم من الغرب و على رأسه الإدارة الأمريكية الجديدة لإرساء الشرق الأوسط الجديد وانتهاك العرض و ابتلاع المزيد من الأرض بهدف إقامة مشروع إسرائيل الكبرى التي بدأت تتجسد مع التوسع في جبل الشيخ و القنيطرة و غيرها من المناطق السورية المستباحة ..

ليست الغاية من هذا المقال الحديث عن أفضل طرق العبادة والتقرب من الخالق لنيل الثواب, فليس لبشر مهما بلغ من التقوى أن يطلع على الافئدة أو يحكم على نوايا البشر و ما إذا كانت عباداتهم تقربا من الله أو امعانا في الرياء و النفاق و التظاهر بالتدين , و لا يمكن لمن يرى تلك الآلاف المؤلفة من البشر من مختلف الألوان و الأجناس و الجنسيات و الحضارات وهي تتوافد على الإمكان المقدسة من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة في أول أيام الشهر الكريم إلا أن يصاب بالذهول و هو يتابع تسابق المعتمرين و تدافعهم قبل كل صلاة للفوز بمكان في المصلى .

نساء رجال أطفال شباب و شيوخ يتسابقون لتلبية نداء المؤذن للصلاة حتى من كانوا يشكون من إعاقة أو من عجز نتيجة المرض أو الكبر تراهم في صراع مع أنفسهم للوصول إلى غايتهم , المشهد هنا مختلف تماما عما يمكن أن يراه زائر الفاتيكان من حضور مهيب للمسيحيين في حضرة البابا و مختلف أيضا عما يمكن ان تراه لدى الهنود خلال الاحتفال بيوم “الهملايا “للصلاة على أرواح أسلافهم و هو اليوم الذي خلق فيه الإله دروجا ذو العشرة أسلحة لتدمير شيطان الملك أسوار الذي خطط لطرد الآلهة من مملكتهم .

لا شيئ من ذلك على الإطلاق فلمكة مكانة خاصة في قلوب المسلمين  فهي مهبط الوحي على خاتم الانبياء و منطلق الرسالة المحمدية ..مكة أم القرى و الحرم و البلد الأمين و هي أرض مقدسة منذ أيام ابراهيم عليه السلام ، و منذ زمن الجاهلية و فيها أقدس مكان .. هي الكعبة التي يحج إليها المسلمون من كل أنحاء العالم و فيها ولد خاتم الأنبياء و فيها رفع إبراهيم قواعد البيت مع إبنه إسماعيل بعد أمر من الله بذبحه قبل أن يفتديه بكبش .

ليس من السهل على المرء أن ينقل للقارئ تفاصيل أول رحلة إلى البقاع المقدسة أو معنى الوقوف على المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة و الوقوف في رحاب أول بيت أقيم للناس تستعيد معه تاريخ أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم ومحنة زوجته السيدة هاجر وهي تقطع الطريق الصحراوي سعيا بين جبلي الصفا و المروة بحثا عن قطرة ماء تنقذها و تنقذ رضيعها إسماعيل قبل أن ينفجر بئر زمزم الذي سيروي عطش كل زائر للبيت حتى اليوم.

طبعا لكل شخص مشاعره و إحساسه و هو يعيش لأول مرة هذه التجربة و ينفصل كليا عن عالمه اليومي بكل مشاكله و تعقيداته ليعيش لحظات من التجلي , ولكن يبقى في البال أن البيت الذي أمر الله إبراهيم باقامته احتاج لكثير من الجهد والعناء لجمع ما يكفي من الخشب والحجارة لاقامته , وأن حصول هاجر على الماء كان بعد سعي دؤوب و عناء طويل .

و لعل في ذلك ما يعزز القناعة بأن فهمنا للدين لم يشمل القيم الأساسية التي تستوجب الاجتهاد و العمل و الحركة لتحقيق البركة و ربما هذه الصورة التي اختزلتها رحلة هاجر في سعيها بين الصفا و المروة و رحلة إبراهيم لإقامة أول بيت للناس ..و ربما هذا ما تحتاج شعوبنا العربية و الإسلامية لاستعادته و استعادة القيم الإنسانية للإسلام بعيدا عن التكلف و الصراعات و الانقسامات .

من الواضح أن السعودية قد أدركت قيمة الاستثمار في السياحة الدينية و أدركت أن المملكة في القرن الواحد و العشرين غير المملكة زمن البعثة المحمدية و إن ما كنا نراه و نتابعه على المواقع الاشهارية بأن المملكة صحراء و ناقة لم تعد كذلك فالمملكة اليوم حظيرة أشغال مفتوحة و ساحة استثمارات محلية و أجنبية و هي تستقطب أكبر المستثمرين في العالم . المملكة في سباق مع الزمن لكسب رهان الرقمنة و التأسيس لبنية تحتية لا يمكن إلا أن تثير اعجاب الزائر بدءا بالمطارات الجديدة مرورا بالقطارات السريعة التي تظاهي أو تفوق ما يتوفر في أكبر العواصم و المدن الغربية و التنقل بين جدة و مكة و المدينة لم يعد أمرا شاقا بوجود القطار السريع مع توفر الخدمات الرقمية و الاحترام الدقيق لمواعيد الرحلات .

الطرقات السيارة مضاءة ليلا نهارا و الحركة لا تتوقف على مدار الساعة و البناء مستمر لمضاعفة طاقة استيعاب زوار المملكة و بناء الفنادق الفاخرة .. ظاهرة لم تكن منتشرة الشباب السعودي يشتغل في مختلف المواقع و حضور المرأة السعودية أيضا في المطارات و الفنادق والمطاعم والمحلات لم تعد بالأمر الغريب. المملكة تراهن على أن يكون تنظيم كأس العالم 2034 على أرضها موعد لكشف الوجه الجديد للمملكة كبوابة دينية وتجارية وثقافية و رياضية وفنية ولكن أيضا سياسية في زمن التكنولوجيا الحديثة في عالم التطورات المتسارعة والتحديات الامنية والتحالفات والشراكات والمصالح الاستراتيجية .

السعودية وقد باتت عاصمة اللقاءات السياسية الكبرى و جسر التواصل والتفاوض بين روسيا وأوكرانيا لإنهاء الحرب التي دخلت عامها الرابع على التوالي ستحتضن قريبا لقاء الرئيس الأمريكي ترامب و الروسي بوتين بعد موافقة أوكرانيا على وقف إطلاق النار وفي ذلك مقدمة للدور المحوري الذي سيتعين على المملكة تحمله في الشرق الأوسط بعد إعلانها رفض التطبيع المجاني و ربط هذه الخطوة بحق الشعب الفلسطيني في إعلان دولته المستقلة و إعلانها ايضا رفض خطة ترامب لتهجير سكان غزة و دعمها إعادة اعمار القطاع وأهله و هو ما يعني ايضا أنه سيكون لزاما على السعودية أن تتبوأ هذا الدور وأن تدفع نحو رص الصفوف و إزالة الخلافات الفلسطينية الفلسطينية حتى و إن استوجب ذلك عزل الفصائل الفلسطينية في منطقة مغلقة للتفاوض فيما بينها إلى حين التوصل إلى حل نهائي تستعيد معه البوصلة المفقودة و تدرك أن العدو الأول والأخطر كان ولا يزال الإحتلال .

نعم المملكة تتغير وتتطور وسيتعين الاستفادة من هذا التغيير في تطوير المجتمعات و تغيير العقليات و مواكبة روح العصر فلا إفراط و لا تفريط .

* آسيا العروس .. صحفية وكاتبة تونسية.

 

اقرأ المزيد

الدكتور محمود أحمد فراج يكتب : الذكاء الاصطناعي والتنمية المستدامة .. رؤية مستقبلية لحوض النيل

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »