أخبار عاجلةالرأي

الباحث أحمد حيدرا يكتب: شُعراءٌ أفارقة، لكن بتفكير عربي! من هم الشُّعراء الذين نتطلّع إليهم لخدمة قارتنا؟

لم يكن يعني لي شيئا في الحقيقة “صوت صفير البلبل” رغم أن أجراسها الموسيقيّة كانت تلامس شيئا ما في أعماقي، ولا أظنّني قد حفظت منها إلا الأبيات الأربعة الأولى. نشأتي في وسط صوفيّ فرض عليّ حفظ نزر يسير من الأبيات، وفي المديح خاصة، هي والأبيات الأربعة الأولى كلِّها، مما خطِفه السّمع وخزّنتها الذاكرة في العقل الباطني من غير قصد منّي أو استئذان.

أمّا “قفا نبكي” وحتّى “ذهبية بن شدّاد”؛ فدعك عنها؛ مفرداتها الخشنة بَداهة تنفّر طبعي الكسول عن التعاطي معها، ناهيك عن الاختلاف البيّن والبون الشاسع بين بيئتي المحليّة، وبين البيئات التي تعكس تلك القصائد خصائصها الجغرافيّة والثّقافية، بونُ ما بين “نيكاراجوا وأمريكا”. مما يجعلها تخرج عن دائرة اهتماماتي كلّيا، ولا أتحسّر عليها.

الناس في اهتمامها بالشعر قراءة وحفظا تختلف من حيث الهدف والمنطلق؛ ومن الناس من يقرأ لإثراء مخزونه الُّلغوي، ومنهم مقتطف لدرر من الحكم والعبر، وإنّ في الشعر لحكمة، أو متمتع بموسيقى الحرف ونغم القوافي، ومن الشعراء من يجيدون صناعة موسيقى الأبجديات كذلك، وثمّة ثلمة من القرّاء، يقرؤون لصلات تربطهم والشّاعر تمكنّهم من اكتشاف ذواتهم وملامح بيئاتهم في ثنايا كلماته، وقليل ما هم.

شعر إفريقيٌّ لكن بتفكير عربيّ:

لا نكاد نجد فارقا بين شاعر إفريقيّ قرض شعرا في داخل أدغال القارة السّمراء، وبين آخر في ربوع الجزيرة العربية، حيث الأغراض هي هي، والأدوات تظلّ نفسها، فليس من المنطق في شيء أن يملأ شاعر صفحات تلو الصفحات في غزل البيض الحسان أو البكاء على الأطلال،  بينما لا هذا ولا ذلك، يعتبران من الخصائص الثّقافية للإنسان الإفريقيّ.

شعراءنا القدامى الذين عاشوا خلال حقبة “الممالك الإسلامية”، وحتّى ألئك الذين قاربوا عهد الاستعمار أو عاصروا بدايته، فمن أتى بعدهم؛ قد اصطبغت أشعراهم بصبغة إسلامية، وطغت على معظمها نزعاتهم الصوفية الشّديدة الجماح، فخلّفوا لنا تراثا ضخما من قصائد النّصح والزّهد والارشاد ومدح لأشياخهم مع بيان مناقبهم؛ وذلك أمر طبيعي للغاية نظرا لدور التّلاقح الفكري في خلق عمليتي التّأثير والتأثر.

ومن المعلوم أن العقيدة الأشعريّة والطّريقة الجنيديّة هي التي كانت الطّابع الغالب على المناهج التعليميّة في السودان الغربي، وإلى عهد قريب. لكن ذلك لم يعد مبررا لاستمرار شعراء القارة- حتى في عصر الحديث- على التّفكير وقرض الشّعر بأدوات عصر الجاهلية، أو بأسلوب شعراء الزهد والنصح في عصري الأموي والعباسيّ.

لنتعلم من العرب؛ فالحضارة العربية في فترة جنينيّتها استفادت من الحضارات الأخرى كالفارسية واليونانية، ولم تقف عند حدّ النّقل والتّقليد، بل تعدّوا ذلك إلى الفحص والشّرح والنّقد، ومن ثمّ صهر النّتائج في بُوتَقَة عربية لتصبح حضارة إسلاميّة عربيّة محضة. ألا يمكن لأشعار شعراءنا أن تبقى عربية في ألفاظها وأفريقيّة في مضمونها وملامحها البيئيّة؟

مشكلة أخرى يجب إعادة النظر فيها:

يذهب معظم الباحثين الذين تناولوا موضوع “الشّعر العربيّ الأفريقيّ” بالدّراسة، إلى التّحقيب لشعراء بلدانهم ابتداء من عهد ما قبل الاستعمار، وهو تحقيب لا يستوفي أبسط معاني الدقّة والموضوعيّة، ومن التّناقض البيّن أن يتقدم طالب ماليٌّ ببحث حول الشّعر والشّعراء في مالي، فيصنّف “عمر الفوتي”-على سبيل المثال- من ضمن شعراء هذه الحقبة، بينما نجد نفس الشّخصية، وفي ذات السياق والحِقبة، تتصدّر قائمة شعراء السنغال في رسالة طالب  سنغالي آخر. وإلى من ينمتي في النهاية؟

والحلّ الأنجع لهذا التّفاوت والتّناقض بين منازع وغايات الباحثين هو: أن يحصر الباحثون تحقيباتهم على الشّعراء الذين عاشوا في ظلّ الدول الحديثة، وترك الشّخصيّات التّاريخيّة للحقب التي عاشت فيها، وإن كان لابدّ من نسبتها إلى دولة معيّن؛ فلتكن إلى إفريقيا فهي أعمّ.

وفي النهاية إننا ومن غير وعي، نظلم شخصيّاتنا التّاريخيّة حين ننسبهم إلى هويّاتنا الوطنيّة التي استُحدثت بعدهم. كما يقول الدكتور المفلق “محمد دكوري الإيفواري”.

جيل جديد يحمل شعلة الأمل والتّجديد:

عن دولتي مالي فالشّعر العربي الإفريقيّ لم يبلغ ذروته فيها إلا مع رجوع الرّعيل الأول من البعثات الطلابيّة الذين نهلوا العلوم من معين الجامعات العربية إلى أرض الوطن؛ ومن غير التّعرض إلى الأسماء بالذّكر؛ فقد كان هذا الجيل بلا منازع جيل تجديد وتنوير، وبالرغم من ذلك، لم يسلم هو الآخر من آفة التّقليد الأعمى والتّأثّر المفرط بشعراء فطاحل العرب الذين قلّدوهم في كل شيء؛ نعم! قلت كل شيء؛ حتى في وصف النّاقة والرّمال وبكاءٍ على الأطلال.

كانت بداياتي الأولى بالتّعرّف على الشّعر العربي المالي مع قصائد هذا الجيل، وأتذكّر أن أوّل مجموعة شعرية وقعت في متناولي كانت عبارة عن مذكرة دراسية لأحد الزملاء في كلّ الآداب وعلوم اللغات بجامعة باماكو.(FlSL) تضمنت المذكرة قصائد في منتهى الرّوعة والجمال، لشعراء جلهم من أبناء الوطن وما جاوره، وبما أنّي بطبعي ميّال إلى كل ماله صلة ببيئتي المحلية؛ فقد وفّرت وقتا كافيا للاطّلاع على تلكم القصائد، والتّعرف على قائليها. وإن كنت أعترف أنها لم تكن تترجم لخصائص ومميّزاتنا الثّقافية إلا لماما، ومع ذلك كانت الرحلة معها ممتعة.

ثم بدأت عيوني بعدها- بفضل العالم الأزرق-تتفتّح على أشعار بعض الشّعراء الذين يحلوا لي تسميتهم ب”أصحاب القصائد السّمراء”، من مالي كما في دول الجوار. تتميز كلمات هذه الفئة بالجمع بين الأصالة والحداثة؛ وتنبض بتنوع التّقاليد وعبق التّاريخ، وتتشبّع بالحسّ العرقي والقاريّ، وبأعلى درجات، تجعل النّاظر فيها يعيش تجربة أفريقية محضة، وتربطه ببيئته وما احتوى من التّقاليد والثّقافات أيما ارتباط.  شعراء بهذه السّمات وبهذا الفكر التّنويريّ، هم من نتطلّع إليهم للتّعريف بخصائص بيئاتنا المحليّة، وإن وجد من أرادوا تقييد قدراتهم الابداعية بعبارة: “الشّعر العربيّ للعربيّ”.

كيف نوظّف الشّعر في خدمة بيئاتنا المحليّة:

ذهب شاعرين عظيمين، ممن يمكن تصنيفهم من روّادي هذه المدرسة الشّعرية الإفريقية الملهمة، إلى خطّ معالم  واضحة يمكن للشّاعر الإفريقيّ السير عليها نحو توظيف أشعاره لخدمة القارة السّمراء،  فبينما  يهيب الشاعر دانسولا(غينيا) بالأديب الغيني المستعرب، في بحثه الموسوم ب(اللغة العربية ودورها في الاتصال الثقافي الثُّنائي الاتجاه بين الشعوب) ويدعوه إلى الاصطباغ بالصبغة الأدبية الوطنية؛ ليكون ترجمانًا صادقًا لواقعه، ومسؤولاً محافظًا على تراثه الوطني، ولسانًا طليقًا لمجتمعه، يأتي زميله الشاعر “ضيف الله الغيني”  في مقدّمة ديوانه  (لأنّي أسود) ليضمّ صوته إلى صوت سابقه، داعيا شعراء القارة برؤيته “الإفريقمالوجية”  إلى تسخير أقلامهم لخدمة قضايا القارة السمراء، فالشاعر حسب الأخير هو ابن بيئته، وإذا ما عجز الشاعر عن ترجمة الواقع الذي يعيشه فقل عليه السلام؛ أو كبّر عليه أربعا لوافته؛ لأنّه يوظّف قلمه في خدمة الآخرين دون أن يشعر بذلك.

وإذ نحن بدورنا نضمّ صوتنا إلى صوت الأوّليين، فقد نزيد هما من الشعر بيتا ومن الكتاب نثرا مما اقترحوه، ونلفت انتباه أدبائنا إلى ضرورة إعادة النّظر والاهتمام بأشعار شعرائنا القدامى دراسة وتحقيقا واستشهادا في بحوثهم ومؤلفاتهم؛ ففيها من المفردات الثريّة ما يغني عن حفظ “المعلقات”، أو “السُّمط” أو “المذهّبات”، ومن الحِكم ما يلهي عن قراءة قصائد “ابن الرومي” أو “أبي العلاء المعرّي”. ومن البلاغة ما يشغل عن قصائد “المتنبّي” والأمير “شوقيّ”. فبدلا من الاستشهاد بأبيات أناس عاشوا في القرون المفضلة ولا نعرف عنهم إلا أسماءهم؛ فلما نستشهد بأبيات “إبراهيم انياس الكولخيّ” أو “الخديم الطوبويّ”، على سبيل المثال، وأين نحن من قصائد “دمب واغي” الماليّ، وماذا عن الأديب الغيني الكبير د محمد جابي، وكأنّه يخاطب هذا الجيل الخائر الحزم نيابة عن شعار القارة بقوله:

خُذُوا الرّأسَ منّي، واحْمِلُوا الْقَلْبَ، وَاتْرُكُوا**لِبَيْتِي وَأَهْلِي مَا تَبَقّى مِنَ الْجِسْم

فَفِي الرّأْسِ كَنزٌ والْفُؤَادُ خَزِينَةٌ**هُمَا مَصْدَرا الإلْهَامِ والْفِكْرِ والْعِلمِ

وَإِنْ شِئْتُمْ أَن تَاْخُذُوا مِنْ أَنَامِلِي** ثَلاَثًا تَفَانَتْ فِي الكِتَابَةِ وَالرَّسْمِ

فَإِنْ تَفْعَلُوا أَنقَذْتُمْ قَبْلَ مَوْتَتِي**رَوَائِعَ انتَاجٍ مِنَ النَّثْرِ والنَّظْمِ.

فهل وافيناه وغيره من شعرائنا حقوقهم؟

التعريف بالكاتب: هو  أحمد حيدرا، كاتب وباحث من دولة مالي، مهتم بقضايا وتراث أفريقيا جنوب الصحراء.

إقرأ المزيد:-

مصطفي النجار يكتب: السياحة… النفط الجديد،،، رؤية تحليلية لـ ” هشام زعزوع وزير السياحة الأسبق”: حول أهداف مستقبل السياحة المصرية

الدكتور عبدالناصر سلم حامد يكتب : فشل مشروع آل دقلو في السودان: من الصعود إلى الانهيار

  الدكتور مصطفى السنوسي يكتب: هل تنجح التجربة الصينية فى اكتشاف كنز الوادي الجديد المفقود؟

الدكتور محمود أحمد فراج يكتب: البنية التحتية في مصر .. دعامة أساسية للتنمية المستدامة

الكاتب الصحفي السوداني عمار العركي يكتب : بيان مجلس السلم والأمن الأفريقي حول السودان.. قراءة في الدلالات والأبعاد

 

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »