أخبار عاجلةالرأي
الدكتور عبد الناصر سلم حامد يكتب : لماذا لا يقصف الجيش السوداني كوبري جبل أولياء؟ .. قرار عسكري محسوب… بين المكاسب التكتيكية والخطر الإقليمي

وسط المعركة المستمرة بين القوات المسلحة السودانية ومليشيا الدعم السريع، يبرز كوبري جبل أولياء كأحد أكثر النقاط حساسية في مسرح العمليات جنوب العاصمة الخرطوم , ورغم الاستخدام المكثف للجسر من قبل المليشيا في نقل الإمدادات والعتاد، إلا أن الجيش السوداني لم يستهدفه حتى الآن , هذا الامتناع لا يعكس تردداً، بل يعبر عن حسابات دقيقة تتعلق بسير المعركة، وما بعدها، في سياق تتقاطع فيه البنية التحتية، والاعتبارات الإنسانية، والمصالح الإقليمية.
يقع الكوبري على النيل الأبيض، ويربط الخرطوم بمناطق مثل ربك وكوستي، وهما محاور رئيسية لحركة الإمداد القادمة من كردفان ودارفور , السيطرة عليه تعني عملياً قطع شريان الدعم عن الجبهة الوسطي , ومع ذلك، لا يزال الكوبري سالكاً، ليس بسبب ضعف في القدرة على استهدافه، بل لأن كلفة القرار أعلى من جدواه المؤقتة.
فالكوبري ليس منشأة عسكرية فحسب، بل هو جزء من منظومة خزان جبل أولياء، الذي يُستخدم لتنظيم تدفّق مياه النيل الأبيض , أي قصف مباشر قد يؤدي إلى تصدع في جسم الخزان أو تعطيل بواباته، ما ينذر بكارثة: فيضانات، انقطاع في المياه، وتهديد مباشر للزراعة ومناطق التوزيع السكاني جنوب العاصمة. ببساطة، المخاطرة أكبر من المكاسب.
ولا تقتصر المخاطر على ذلك. الخزان، بسعته الاستيعابية التي تقارب 3.5 مليار متر مكعب من المياه، يمثل نقطة توازن مائي حيوية للسودان , أي تصدّع كبير قد يؤدي إلى فيضان يجتاح الضفتين، ويهدد مناطق مكتظة مثل جبل أولياء، الكلاكلة، اللاماب، الشجرة، والخرطوم جنوب، وهي مناطق يُقدّر عدد سكانها بأكثر من 1.2 مليون نسمة. إضافة إلى ذلك، يعتمد ما يزيد عن 60% من سكان الخرطوم الكوبرى على شبكة مياه تغذَّى جزئياً من الخزان، ما يجعل أي خلل فيه كفيلاً بإحداث شلل مائي واسع في العاصمة.
الخطر يشمل البنية التحتية كذلك: محطات الكهرباء، مضخات المياه، الطرق الحيوية، وحتى شبكات الاتصالات. النتيجة المحتملة: دمار مدني واسع، نزوح جماعي، وفقدان السيطرة على إدارة المياه في ذروة موسم الجفاف.
لكن الخطر لا يقف عند حدود السودان , خزان جبل أولياء هو جزء من منظومة مائية مترابطة تؤثر على تدفق مياه النيل إلى السد العالي في مصر , أي تصدع أو خلل في جسم الخزان قد يؤدي إلى تدفق غير منسق لكميات ضخمة من المياه شمالاً، ما يُربك نظام التخزين في بحيرة ناصر.
في هذا السياق، يبدو أن الجيش السوداني يتبع تكتيك النفس الطويل… الحفاظ على الكوبري في حالته التشغيلية قد يكون خياراً مؤجلاً، بانتظار استعادته عبر عملية برية، أو استخدامه كورقة لإعادة الانتشار وفتح جبهات جديدة. تدميره الآن يعني خسارة ورقة استراتيجية قبل وقتها.
وفي سيناريوهات أخرى، قد يُترك معبر كهذا مفتوحاً عمداً، للسماح بمرور العدو نحو نقطة يمكن استهدافه فيها بفعالية , ومن المرجح أن الكوبري يخضع لرقابة جوية واستخباراتية على مدار الساعة، وقد يتحول إلى كمين محكم في اللحظة المناسبة.
الجيش السوداني يركّز حالياً على استهداف الأرتال بعد عبورها إلى مناطق مفتوحة، وضرب مراكز الإمداد في كوستي وربك، مع استخدام مكثف للطائرات المسيّرة والاستطلاع الجوي لتحديد التحركات وتوجيه ضربات دقيقة.
شاحنات الدعم السريع التي تعبر الكوبري غالباً ما تكون محملة بالوقود والذخائر , أي انفجار — سواء نتيجة قصف مباشر أو حادث داخلي — قد يتسبب في سلسلة حرائق ضخمة وانهيار الهيكل الحديدي، ما قد يؤدي إلى امتداد النيران لمنشآت الخزان والمناطق السكنية القريبة. النتيجة: دمار أكبر من أي ضربة جوية تقليدية.
تشير التقديرات العسكرية إلى أن انفجار ما بين ثلاث إلى خمس عربات عسكرية ثقيلة، محمّلة بذخائر متنوعة ومواد شديدة الانفجار، يمكن أن يؤدي إلى تدمير جزئي أو كامل للكوبري , وتشمل هذه الذخائر قذائف مدفعية عيار 122 أو 130 ملم، صواريخ غراد، قذائف هاون عيار 120 ملم، وصواريخ مضادة للدروع مثل الـRPG-7 وSPG-9، إضافة إلى أحزمة ذخيرة لأسلحة ثقيلة من عيار 12.7 و23 ملم , كما أن العديد من هذه العربات تكون محمّلة ببراميل وقود أو جرارات ديزل، مما يضاعف احتمالات الاشتعال والانفجار المتسلسل , أي تفجير متزامن لهذا النوع من الحمولة فوق الجسر، خصوصًا في منطقة الأعمدة الحاملة، قد يُنتج موجة انفجارية تعادل ضربة جوية مركزة، ويؤدي إلى انهيار الجسر، وامتداد الكارثة إلى الخزان نفسه.
الجيش السوداني يتعامل مع الكوبري بتكتيك هادئ ومدروس. فليس كل هدف يُقصف فوراً. هناك أهداف تُترك قائمة لاستخدامها في توقيت محسوب ضمن خطة أوسع , وقد يكون كوبري جبل أولياء ورقة مؤجلة لضربة قاضية، أو فخاً يُغلق في اللحظة المناسبة.
الكوبري الذي لا يُقصف اليوم، ليس بالضرورة محصناً، بل هو تحت المراقبة الكاملة , والامتناع عن ضربه لا يُفسَّر كضعف، بل كدليل على نضج في القرار العسكري، ووعي بأن بعض الأهداف لا تُسقط بالصواريخ… بل بالتوقيت.
* الدكتور عبدالناصر سلم حامد .. كبير الباحثين ومدير برنامج شرق أفريقيا والسودان في مركز “فوكس”، وباحث في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب .
إقرأ المزيد :