الباحث المالي أحمد حيدرا يكتب : عيد الفطر في مالي .. فرحة متوارثة بين الماضي والحاضر

مع دخول العشر الأواخر من شهر رمضان المعظم وبدء الاستعدادات لعيد الفطر المبارك ، تبدأ الأسواق بدولة مالي في النبض بالحياة تدريجيًا. تمتلئ الأرجاء بضوضاء الزبائن وصفارات سيارات النّقل المتسابقة لاستقطاب الركاب من كل صوب. وعلى جنبات السوق، يصطف الباعة، تطغى صفاراتهم على ضجيج السيارات، وكأنها جزء من سيمفونية العيد . . إنّه مشهد رهيب حين يُرحّب الباعة بزبائنهم عبر الصفّارات والأبواق ، بينما يرقص آخرون ويغنّون بحماسة لجذب الانتباه .. الزبائن يضحكون، الأطفال يصفقون، والمشهد كله ينبض بالحياة، وكأن السُّوق ليس مجرّد مكان للبيع والشّراء، بل ساحة احتفالية يومية، حيث المهارة والإبداع هما مفتاح النجاح! .. من الواضح أن هذه الأيام ليست كغيرها، إنها أيام عيد الفطر، في (باماكو) حين تتحوّل الأسواق إلى ساحات احتفال نابضة بالحياة.
يعدّ عيد الفطر من أهم المناسبات الدينية التي يحتفل بها المسلمون حول العالم، فهو يأتي تتويجًا لشهر رمضان المبارك، حاملاً معه الفرحة والبهجة بعد شهر من الصيام والعبادة. في مالي يحتفل المسلمون بهذا اليوم المبارك، كما هو الحال في مختلف الدول الإسلامية، لكن العيد عند الماليين له طابعه الخاص الذي يجمع بين الروحانية العميقة والتّقاليد العريقة التي توارثتها الأجيال. فما هي أبرز طقوس الاحتفال بعيد الفطر في مالي، وكيف تعكس هذه الطقوس الموروث الشعبي الماليّ؟ وهل يتميز الماليون بأسلوب خاص في ارتداء ملابس العيد؟ وما دور الأكلات الشعبية والأطفال في تعزيز أجواء الفرحة خلال هذا العيد؟لمعرفة ذلك، تابع قراءة المقال إلى النّهاية!
أولا: مظاهراحتفالية حديثة تجذّرت من تقاليدعريقة:
نظرا لتجذّر الإسلام في المجتمع المالي، فإنّ أغلب مظاهر احتفالات العيد بمالي، مأخوذة من تقاليد قديمة، وقريبة ممّا هو معروف اليوم. ويمكننا التأكّد من ذلك بالعودة إلى نصٍّ للرَّحالة المغربي “ابن بطوطة “الذي سجّل لنا فيه أثناء زيارته لمملكة مالي (1352 – 1353)؛ بعض مشاهداته لطقوس عيد الفطر والأضحى آنذاك. وبحسب “الدكتور آدم بمبا”(كوت ديفوار): “إنَّ هذا النَّص القصير الذي جاء في (426 كلمة) فحسب على قدرٍ من الأهميَّة كبير؛ لاشتماله على مضامين اجتماعيَّة وثقافيَّة قد انْمحى بعضها مع الزَّمن“.
ومن أهم ماجاء في النص نذكر مايلي:
(أ)يتم الاحتفال بالعيد في المصلّى القريب من قصر السّلطان، مما يدلّ على العلاقة الوثيقة بين الدّين والسّلطة في مالي القديمة.
(ب)حضور ملحوظ ومميّز للسُّلطان في المصلّى. (ت)لبس السُّلطان وسائر النَّاس الطيلسان في هذا اليوم فحسب. مما يعكس حرص الماليين على الظهور في يوم العيد بهيئة أنيقة.
(ث) تخصيص السّلطان بموعظةٍ بعد صلاة العيد، ووجود مترجم يقوم بشرح الخطبة لعامّة النّاس. يشير إلى تنوّع الّلغات في مالي وقتئذ، وحتّى اللحظة.
(ج) جلوس السّلطان بعد العصر على “البنبي”، وهو كرسي العرش، وسط مظاهر الفخامة والهيبة؛ لسماع الأغاني الشعبية، ومشاهدة الغلمان والجواري تستعرضن أمامه، دليل على أن العيد في مالي القديمة كان يتخلله مظاهر التّرف والّلهو وفلكورات متنوّعة؛ للترويح عن النّفس.
ثانيا : مظاهر احتفالية في ظل دولة مالي الحديثة:
1–الملابس:مورث ثقافي يعكس الهوية
كما كان الحال في عهد مملكة مالي القديمة، لايزال الماليون حتى اليوم يحرصون على ارتداء ملابس أنيقة يوم العيد، حيث يعتبر(البزن)(Bazin) المعروف بألوانه المتنوّعة الزّاهية وملمسه اللاّمع، من أشهر الأقمشة المفضّلة لدى جلّ الماليين. عند الرجال كما عند النساء سواء بسواء. أمّا الرّجال، يستخدمون(البزن) لخياطة (البوبو) Boubou) )وهو ثوب فضفاض بأكمام واسعة، وغالبًا مايكون مطرّزًا عند الصدر. بينما النّساء الماليّات يخطن منه فساتين طويلة وأنيقة، مع وشاح كبير يُسمّى (موسوروMussoro) ()يلفُّ حول الرأس لإكمال الإطلالة التّقليديّة. ويسهر الخيَّاطون طوال ليالي الرمضان تقريباً في خياطة الملابس الجديدة. مما يوحي إلى كثرة الإقبال على خياطة(البزن) في الأعياد والمناسبات.
المثير أن تقاليد الملبس في مالي لم تتغير كثيرا منذ “عهد مملكةمالي القديمة،” فالمورث الاجتماعي يظل ثابتا مع تغييرات طفيفة مع الزمن. مما يجعل زي (البزن) جزءا من الهوية الثقافية في مالي يجمع بين الأناقة والتّاريخ والتّقاليد.

2–نحو المصلّى: اجتماع روحي واجتماعي
في ليلة العيد، وبعد أن يتمّ اعلان رؤية الهلال عبر “لجنة مراقبة الأهلّة” التابعة ل”مجلس الإسلامي الأعلى في مالي”، تكون المساجد والسّاحات العمومية قد تمّ تنظيفها بشكل كامل من قِبل شباب متطوّعين، استعدادا لاستقبال المصلّين صبيحة يوم العيد.
ومع بزوغ فجر العيد يتوجّه الماليون إلى المصلّى، في وسط أجواء تشوبها المحبّة والفرح. هنالك يجتمع الكبار والصّغار في صفوف متراصّة، تتعلى أصواتهم بتكبيرات العيد، في منظر يوحي بالوحدة والتّآخي، حيث تمتزج القلوب بفرحة هذا اليوم المبارك.
رغم أن نظام الملكلي لم يعد معمولا به في ظل دولة مالي الحديثة، إلا أن رؤساء الدولة المتعاقبة حرصت على المحافظة على العديد من الموروثات الاجتماعية التي كانت سائدة في “مملكة مالي القديمة”، منها، حضورهم لأداء صلوات العيد مع عامّة الشعب، تقليدا لملوك “الممالك القديمة في مالي”. ومظاهر ذلك في العصر الحديث؛ أن موكب الرئيس عادة ما يكون آخر الواصلين إلى المصلّى، بينما يبكّر أغلب المصلّين إلى المسجد اغتناما لفرصة الحصول على مكان داخله، حيث يمكنهم رؤية الرّئيس ولو عن بعد. وتحت حراسة مشددة يشقّ رئيس الدولة الصفوف تجاه الصفّ الأول، حيث يُفرش له بساط خاص، وراء الإمام، ويحيط به حرسه الشخصي، إلى جانب وزير الأول، وبعض الدّبلوماسيين.ويُلاحظ مع وصول الرئيس، حضور قوي لوسائل الاعلام داخل المسجد؛ لتغطية الحدث وبثه في التلفزيون الرسمي المالي. كما تنتشر صور حضور الرئيس للصلاة، عبر المناصات، انتشارا واسعا.
وتجدر الإشارة إلى أن الرّئيس الانتقالي الحالي في مالي، “الجنرال آصم غويتا، “منذ تعرّضه لمحاولة اغتيال أثناء أدائه صلاة عيد الأضحى في الجامع الكبير بباماكو يوم 20 يوليو 2021، امتنع عن حضور صلاتي العيدين في المسجد ذاته، مفضلاً إقامتهما في مسجد القصر الرئاسي.
ثم يبدأ المصلّون بتبادل التّهاني، بعد الصلاة، ويتسامحون فيما بينهم، وبعدها يتفرّقون، كل إلى منزله لإتمام فرحة العيد. ويعدُّ العيد عند الماليين فرصة سنوية لتحظى الموتى في المقابر بزيارة ودعاء الأهل والأقارب؛ ويتمّ ذلك، بعد الصّلاة مباشرة.

3–الأكلات الشّعبية: مكمّلات لبهجة العيد .
على الصّعيد المأكولات، والمشروبات، فإنّ الأطباق التّقليدية تحتلّ مكانة بارزة خلال العيد، ومن أكثر الأكلات استعمالا في نهار العيد عند أغلب الماليين، طبق zamè) ) الذي يشبه الأرز المفلفل ويُطهى مع الطماطم والبصل والتّوابل، وغالبًا ما يُضاف إليه اللحم أو السمك. هذا في منطقة جنوب الغربي للبلاد. أما شمالها، مثل “تنبكتو”، و”غاو”، فلديها أكلات شعبية مغايرة، مثل (فاكهوي) fakohoye)، )وتكاسو Tukasu)، )فالأوّل يعدّ من اللحم والسبانخ المجفّفة والتّوابل ويقدّم مع الأرز، بينما يتكوّن الثاني من الصلصة المصنوعة من الطامطم، والبصل، مع اللحم، والتّوابل التّقليدية، ويؤكل مع رغيف مصنوع من القمح. ول”توكاسو”أهميّة كبيرة في شمال مالى، خاصة بين قبائل “الطّوارق” و”الصنغاي”، حيث يعتبر من الموروثات الشعبية التي انتقلت من الشمال الإفريقي إلى مالي القديمة، مما يجعله ليس مجرد طبق يُتغذّى به، بل تراث مطبخي تقليدي يحمل بداخله الكثير من الحكايات التّاريخية.
أمّا المشروبات الشعبية في مالي، يأتي في طليعتها عصير(دابلني Dablèni) وهو مشروب شهير في غرب أفريقيا لاسيما في دول مثل سنغال، ساحل العاج بوركينا فاسو، ويحضّر من زهور الكركاديه المجفّفة، ويتميّز بلونه الأحمر القوي، ونَكهته اللاذعة والمنعشة، خاصّة عندما يضاف إليه النعناع أو زنجبيل. إلى جانب(دابلني) توجد مشروبات غازية بأشكالها المختلفة، حيث يفضّل الأطفال استهلاكها أيام المناسبات عن المشروبات الشعبية.
ثالثا: الأطفال والعيد: قصة غرام لاتوصف
الأطفال في مالي جزأ لا يتجزأ من فرحة العيد، بهم تتزيّن الشّوارع، وتعمُر المنازل، وتتم بهجة وجمال العيد. وللأطفال مع العيد وقت وميعاد معلوم، وهو بعد صلاة العصر، حيث تكون حرارة الشمس قد بدأت بالاختفاء، يرتدي كل طفل أجمل مالديه من الملابس الأنيقة والنظّارة البلاستكية المناسبة لسنّهم البريئ.
الرجال كانوا على موعد مع الحلاّق قبل يومين من العيد، بينما الفتيات زيّنّ رؤسهن بأبها الزّينة والحلى. وغالبًا ما يخروجون في مجموعات صغيرة، ويطوفون بالمنازل، في الحيّ السكنى وما جاوره، عند باب كل منزل لهم حقّ يسعون لأخذه، لكن بعد أداء أغاني شعبيّة خاصّة، مصاحبة بالرّقص أحيانا، وترديد عبارات مرحة أمام الكبار. ويسمّى الهدايا النّقدية التي تُقدّم لهم يوم العيد عند “البمبارا” بSelimafo)، ) وعند “الصّنغاي“، (Djinguar goro) .
ويستمرّ هذا الفلكور طوال أيام العيد الثلاثة، وقد يدخلون في منافسة ودّية حول من يجمع أكثر من العيدية، مما يجعل العيد أكثر متعة لهم.
والأمتع، أنّ بعض المدّاحين الشعبيّين، قد ينافسون الأطفال في طلب العيدية، إذ يقومون بالتَّطواف على المنازل خلال أيَّام العيد الثَّلاثة، وإنشاد مدائح شعبية في حقِّ كلِّ أهل بيتٍ، ويحصلون بالمقابل على ما تيسّر من الهدايا. علما بأن هذه الظاهرة تعدّ من التّقاليد التي كانت سائدة في مالي القديمة، كما مرّ معنا في نصّ “ابن بطوطة.” لكنّها بدأت تندثر إلاّ في بعض المناطق في وسط وشمال مالي، عند “الصّنغاي” و”الفلان” خصوصا.
رابعا: الجانب الاجتماعي والتّواصل بين النّاس:
يُعتبر عيد الفطر فرصة لتعزيز الروابط الأسرية والاجتماعية، حيث يحرص الماليون على زيارة الأقارب والجيران وتبادل التّهاني، والأطعمة كذلك، إذ يحرص بعض الأسر على تخصيص طبق لأقاربهم تقدّم إليهم عند الزّيارة، كما تُنظم التجمعات العائلية الكبيرة، حيث يجلس الجميع حول مائدة العيد، ويتبادلون أطراف الحديث وسط أجواء من البهجة.
وتختلف صيغ وعبارات التّهاني والتبريكات من شعب لآخر، فعند “البمبارا“: (sambé-sambé) ويجاب ب(Allah ka can camanyiraan’na) ) أي (جعلنا الله من العائدين)، فيما يتبادل الشعب “الصّنغاي” في منطقة تنبكتو التّهاني ب (keye yè ci ) عند الردّ يقال L yè ci moré thinè) ) بمعنى ى رزقنا الله رؤية عيد المقبل. أمّا فلاني ماسنا(وسط مالي) فب thiègor wagoro))يهنّئون ، ويجاب (wagoro hèri)
هذا ومن غير أن ننسى الدّور البارز الذي تلعبه الرّسائل النصّية(SMS) في أداء ء واجب التّهنئة، إذ جرت العادة في مالي أن تتبادل الناس التّهاني عبر الهواتف فور اعلان رؤية الهلال. ومن الملاحظات الدّقيقة التي تفضّل بها “د. آدم بمبا”، السالف الذّكر، حول هذه الظاهرة، أنّها ساهمت في “توسيع مدارك بعض الشَّباب عن العالَم الإسلاميِّ، وتضامُنهم مع القضايا الإنسانيَّة والسِّياسيَّة التي تهمُّ المسلمين، ففي تغريدة إلكترونيَّة على توتير بمناسبة عيد الفطر؛ أرسل أحدهم باسم «سعيد كايْتا» من مالي تهنئةً يقول فيها:
«sambe sambe/ happy Eid Mubarak/ Bonne fete de Eid del fitra a tout(sic) mes freres et sœurs du monde. Paix au Mali, a Gaza, et dans le monde».
أي: «كلُّ عام وأنتم بخير/ عيد مبارك سعيد (بالإنجليزية)/ عيد فطر مبارك (بالفرنسيَّة)، لجميع إخواني وأخواتي في العالَم.. ليحلَّ السَّلام في مالي وفي غزَّة وفي العالَم أجمع.
الخاتمة:
وهكذا، يبقى عيد الفطر في مالي أكثر من مجرد مناسبة دينية، بل هو رابط يجمع بين الأجيال، وجسر يمتد بين الماضي والحاضر، ليحمل معه عبق التقاليد وروح الاحتفال، في مشهد يفيض بالفرح والانتماء.
- الباحث أحمد حيدرا .. كاتب وباحث من دولة مالي مهتم بقضايا وتراث أفريقيا جنوب الصحراء .
إقرأ المزيد :