الدكتور عبد الناصر سلم حامد يكتب : حرب السودان المنسية.. خطر يهدد البحر الأحمر والقرن الأفريقي

بينما ينشغل العالم بصراعات أخرى أكثر شهرة، تدخل الحرب السودانية عامها الثاني وسط صمت دولي يكاد يكون تواطؤًا. النزاع، الذي اندلع في أبريل 2023، لم يعد مجرد معركة محلية على السلطة، بل تحول إلى تهديد حقيقي للاستقرار الإقليمي والأمن الدولي. السودان، الذي يشغل موقعًا استراتيجيًا بين شمال أفريقيا والقرن الأفريقي ويشرف على ساحل يمتد أكثر من 700 كيلومتر على البحر الأحمر الذي تمر عبره 10% من تجارة العالم، يترنح اليوم على حافة التفكك دون أن يثير قلقًا كافيًا لدى القوى الكبرى، ببساطة لأن خطوط النفط والملاحة لم تتأثر بعد.
على أرض الواقع، تتفاقم الكارثة الإنسانية بشكل صادم.. أكثر من 30.4 مليون شخص باتوا بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، بينهم 16 مليون طفل، فيما أصبح 8.8 مليون سوداني نازحين داخليًا، وفر أكثر من 3.5 مليون لاجئ إلى دول الجوار.. المجاعة تهدد حياة 25 مليون إنسان، والنظام الصحي انهار تقريبًا مع توقف 80% من المرافق الطبية، بينما حُرم نحو 19 مليون طفل من التعليم. في مارس 2025، وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الوضع بأنه “كارثة إنسانية غير مسبوقة”، محذرًا من أن نداءات التمويل الدولي لم تتلق سوى 10% مما هو مطلوب، في مؤشر صارخ على حجم التجاهل العالمي لمأساة بهذا الحجم.
تداخلت في الصراع السوداني أبعاد محلية وإقليمية ودولية معقدة، إذ تتصارع قوى داخلية على النفوذ بدعم من أطراف خارجية تسعى لحماية مصالحها أو توسيع نفوذها في منطقة البحر الأحمر. هذا الواقع جعل أي محاولة لإنهاء النزاع عملية شديدة الصعوبة، وأطاح بفرص الوصول إلى تسوية سياسية شاملة في المدى المنظور.
في هذه الأثناء، يتسع الانهيار تدريجيًا، مما يفتح المجال أمام الجماعات المتطرفة وشبكات التهريب والقرصنة لاستغلال الفراغ الأمني على السواحل السودانية، في مشهد يعيد إلى الأذهان تجربة الصومال في التسعينيات حين أدى انهيار الدولة إلى تفشي الفوضى والقرصنة البحرية. في حال غابت سلطة الدولة، قد يتحول السودان إلى منصة انطلاق جديدة للجماعات الإرهابية نحو أفريقيا والشرق الأوسط، مما يضاعف التهديد للأمن الإقليمي والدولي.
موجات النزوح الجماعي تمثل خطرًا إضافيًا، إذ تمارس ضغوطًا هائلة على الدول المجاورة مثل مصر وليبيا وتشاد وإثيوبيا.. استمرار هذا التدفق البشري ينذر بانفجار اجتماعي واقتصادي قد يؤدي إلى اشتعال نزاعات جديدة تمتد عبر الحدود وتزيد من اضطراب الإقليم.
من جهة أخرى، يتصاعد الصراع الخفي بين القوى الكبرى في منطقة البحر الأحمر.. الولايات المتحدة والصين وروسيا تتسابق لترسيخ نفوذها في هذه المنطقة الحيوية، عبر السيطرة على الموانئ والممرات البحرية، مما يجعل أي انهيار أمني في السودان بمثابة شرارة محتملة لصراعات بالوكالة، قد تخرج عن السيطرة في حال غابت الدولة السودانية عن المشهد كليًا. أي اضطراب أمني في البحر الأحمر قد يرفع تكاليف التأمين والشحن بنسبة تصل إلى 30%، وفق تجارب سابقة مع القرصنة في الصومال. وبالنظر إلى أن 10% من تجارة العالم تمر عبر هذا الممر، فإن تأثير النزاع في السودان لن يبقى محصورًا في الإقليم بل قد يصيب الأسواق العالمية بأزمات إضافية في أسعار السلع والطاقة.
رغم قسوة المشهد، لا تزال هناك فرصة ضيقة لمنع الانهيار الكامل.. الجيش السوداني، رغم التحديات، يمثل إحدى الدعائم القليلة الباقية التي يمكن البناء عليها لإعادة تأسيس الدولة، بشرط أن يتم ذلك ضمن إطار مشروع وطني شامل لا يستثني أحدًا، يهدف إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة المدنية، واستعادة سيادة القانون، وتأمين الحدود، وضمان توزيع عادل للموارد. دون دعم قيام حكومة مركزية شرعية وقوية، سيستمر الفراغ، وستتضاعف احتمالات تفكك السودان إلى كيانات متناحرة، تتحول مع الوقت إلى ملاذات آمنة للتنظيمات الإرهابية والعابرة للحدود.
التحرك العاجل بات ضرورة استراتيجية. على المجتمع الدولي دعم مبادرة سياسية شاملة، وإقرار هدنة إنسانية بضمانات دولية قوية، وتأمين ممرات آمنة لإدخال المساعدات.. كما أن هناك حاجة إلى تحرك استباقي لتفكيك الجماعات المتطرفة قبل أن تترسخ على الأرض وتفرض واقعًا جديدًا أكثر خطرًا.
الصمت الدولي تجاه حرب السودان لا يعبر فقط عن خيانة أخلاقية لقيم الإنسانية، بل يمثل مقامرة خطيرة بمصالح حيوية تمس الأمن العالمي. فخسارة السودان لن تعني فقط انهيار دولة أخرى في أفريقيا، بل قد تؤدي إلى انفجار كامل في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، مما يهدد واحدة من أهم شرايين التجارة العالمية.. إن الخطر لم يعد احتمالًا بعيدًا، بل واقعًا يتشكل كل يوم أمام أعين الجميع، والسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: هل يتحرك العالم لإنقاذ السودان؟ أم يدفع الجميع قريبًا ثمن هذا التجاهل القاتل؟ إن تجاهل السودان اليوم يعني دفع ثمن أكبر غدًا، في الموانئ والأسواق وحتى الشوارع .
* الدكتور عبدالناصر سلم حامد .. كبير الباحثين ومدير برنامج شرق أفريقيا والسودان في فوكس السويد .. وباحث في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب.
اقرأ المزيد