السفير عبد المحمود عبد الحليم يكتب .. تصحيح كراسة أفريقيا فى عام ٢٠٢٣: نوستالجيا البحر والموانئ
يذكر جورج ويا نجم ليبيريا الكروى الشهير الهدف الرائع الذى أحرزه لفريقه باريس سان جيرمان فى شباك حارس مرمى بايرن ميونيخ الاسطورى كيفوالان في منافسات بطولة الأندية الأوربية، كما ظل يسترجع بإعجاب مسار تجربته الإحترافية الناجحة بأندية موناكو وميلان الايطالى وتشيلسى ومانشستر سيتى ومارسيليا وفوزه بالكرة الذهبية كأحسن لاعب في العالم غير أن مخاطبته لشعب ليبيريا فى نوفمبر المنصرم من موقعه كرئيس للجمهورية منتخبا منذ عام ٢٠١٧ كان لإعلان نتيجة مباراة تنافسية من نوع آخر وهى نتيجة الانتخابات الرئاسية التى خسرها لصالح المعارض جوزيف بواكاى ، فقال ” هذا المساء خسر حزبنا…لكن ليبيريا كسبت “.
كانت انتخابات ليبيريا والتى لا تزال تتعافى من آثار الحرب الأهلية بها من الإيجابيات الأفريقية القليلة التى شهدها العام الذى مضى ، علاوة على إنتخابات تمت بسيراليون ومدغشقر ونيجيريا ومصر فى خضم أحداث مزلزلة تصدرتها أحزان السودان، وكوارث مرعبة شكلها تحالف بين انواء الطبيعة وتغيرات المناخ والكوارث الطبيعية من جهة وتلك التى من صنع الإنسان من جهة أخرى ، ففقد الآلاف أرواحهم في أعاصير وفيضانات ليبيا وزلازل المغرب فى قارة ظلت دوما عرضة لتيارات الضغط العالى السياسية التى تهب عليها من الخارج حربا باردة وساخنة وتحالفات واصطفافات واستقطابات على النحو الذى يعكسه نمط التصويت الافريقى المتباين على مشروعات القرارات الخاصة بالحرب الأوكرانية على لوحة نتائج التصويت بقاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة ، فلم تسلم أفريقيا من تبعات الأوضاع السياسية المضطربة في العالم, وتنافس الولايات المتحدة والصين ، ولم تكن بمنجاة من تفاعلات وتطورات الصراع العربى الإسرائيلى و صراع الموانئ والممرات المائية بالبحر الأحمر والخليج والمطامع على الثروات ومصادر الطاقة والمعادن.
وقد اتخذ صراع المعادن وجهة هامة فبعد أن كانت المعادن إحدى أسباب إستعمار واحتلال العديد من دول القارة أصبحت في زماننا الراهن أحد الأسباب القوية لنشوء واندلاع واستفحال النزاعات الداخلية وخاصة فى غياب الخطط القومية لتنظيم واستغلال الثروات المعدنية والطبيعية..ّولئن تلاحظ أيضا فى هذا الاطار تزايد اهتمام الحلفاء الاقليميين للقوي الغربية بأمر الثروات المعدنية والطبيعية والتنافس الحاد بينهم فإن موضوع الموانئ قد دخل بدوره كأحد مثيرات التوتر فى المنطقة برمتها حيث أدت نوستالجيا البحر والموانئ والافتتان المتزايد بها لبوح علنى من رئيس الوزراء الاثيوبى أبى أحمد مطالبا بوجود مباشر كحق سيادى لبلاده بها فى خطاب هام له فى أكتوبر الماضى أثار إهتمام المراقبين مشيرا الى أنها مسالة حياة ووجود لإثيوبيا التى لن تقبل بأن تسجنها الجغرافيا ، و قال ” إن بلاده تنظر دوما للبحر الأحمر و نهر النيل لبقائها أو فنائها” ..و قد أدى ذلك لغضب إريتريا وتوتر علاقات البلدين..بل أدخل ذلك كامل القرن الأفريقى فى آتون توتر جديد حيث نددت الصومال بما تم من إتفاق بين إثيوبيا وجمهورية أرض الصومال تقرر بموجبه منح أثيوبيا قاعدة بحرية وميناء على تلك الأراضى الساحلية مقابل وعد بالاعتراف وحصة فى الخطوط الاثيوبية ، وقالت الصومال التى استدعت سفيرها من أديس أبابا محتجة للتشاور ” إن ماتم عمل عدائي يقوض سلامة الصومال ووحدة أراضيها.
وكان رئيس جمهورية أرض الصومال موسى بيهي عبدى قد وقع مع رئيس الوزراء الاثيوبى أبى أحمد مذكرة تفاهم ” للشراكة والتعاون ” بين الجانبين فى ختام زيارة قام بها لإثيوبيا يتوقع أن تستمر تفاعلاتها خلال العام الجديد….وقد استبقت الإتفاقية استئناف كان وشيكا للحوار بين حكومة الصومال وجمهورية أرض الصومال انجزته مبادرة قام بها الرئيس الجيبوتى إسماعيل عمر جيلى الذى قيل أن ذلك قد أغضبه.
وكانت ” موانئ دبى” قد وقعت اتفاقا مع جمهورية أرض الصومال عام ٢٠١٦ بقيمة ٤٤٢ مليون دولار لتشغيل مركز تجارى ولوجستى إقليمي في ميناء بربرة كما وقع الجانبان إتفاقية اخرى عام ٢٠١٨ لتطوير مشروع منطقة اقتصادية حرة بحصة لموانئ دبى تبلغ ٥١ بالمائة من المشروع… وليس من المستبعد أن تطالب إثيوبيا قريبا ، وقد نالت فى أغسطس الماضي عضوية مجموعة البريكس عقب اجتماعات قمتها بجنوب أفريقيا ، بعضوية “مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن” وهى المنظمة التى تضم السودان ومصر وجيبوتى وإريتريا والصومال والسعودية والأردن واليمن.
لقد سعت أفريقيا خلال عام ٢٠٢٣ للتغلب على تأثيرات الحرب الاوكرانية والتضخم الجامح فى أسعار المواد الغذائية وتفاعلات الكوفيد ١٩ وصولا من جهة أخرى للاجندة ٢٠٦٣ التنموية إلا أن ان النتائج لم تكن كما توخى المخططون على الرغم من استراتيجيات ذات صلة أعلنت في السابق لتعزيز الوصول لهذه الأهداف مثل مبادرة ” إسكات صوت البنادق ” وإطلاق مشروع المنطقة الافريقية الحرة ، وقد استمر انخفاض النمو خلال العام الماضى ، وحسب تقارير البنك الدولى فإن معدلات النمو وخاصة في بلدان أفريقيا التى تصنفها بجنوب الصحراء لاتزال ضعيفة نتيجة لحالة عدم اليقين التى تكتنف الاقتصاد العالمى وتراجع أداء أكبر اقتصاديات القارة وارتفاع معدلات التضخم والتباطؤ الحاد في نمو الاستثمار .
وقد أوصت تقارير البنك الدولى الحكومات الافريقية فى مواجهة خفض معدلات النمو وارتفاع مستويات المديونية بزيادة التركيز على تحقيق استقرار الاقتصاد الكلى وتعبئة الإيرادات المحلية وتخفيض المديونية وتعزيز الاستثمارات الهادفة للحد من الفقر والمجاعات.
كان أهم ما أعلنه عام ٢٠٢٣ هو تراجع نفوذ فرنسا في القارة الأفريقية وخاصة بعد الاطاحة فى فضائها الفرانكفونى بعدة أنظمة فى العام الماضى والعامين السابقين آخرها النيجر متبوعا بالجابون وصلا لطلاق سياسي وعسكرى بمالى وغينيا وبوركينافاسو وتضعضع لنفوذها في تشاد.
وقد تلاحظ أن الإطاحة تلك عسكريا بالأنظمة إلمذكورة قد وجد تجاوبا داخليا واسعا وعده عديدون ” موجة ثانية من التحرر الوطنى” عقب الموجة الأولى التى نالت بموجبها هذه الدول استقلالها ، ونادى آخرون بضرورة اغتنام هذه السانحة لخلق توافق وطنى ينأى بالبلاد عن الارتهانات والتدخلات الخارجية.
و لتراجع النفوذ الفرنسي في افريقيا اسبابه فلم يوفر سلاما ولم ينجز تنمية ، وقد ركز أيضا على الحلول الأمنية والعسكرية ولم يستصحب أنماطا أخرى أثبتت التجارب نجاعتها مثل السعى لتنمية تلك المناطق، وفقدت مرتكزات الوجود الفرنسي القائم أصلا على الوصاية والاستعلاء الاستعمارى والاستغلال الاقتصادى وشبكة عميقة من الروابط الاقتصادية وأيضا الثقافية الهادفة لتشكيل القوام والبناء الثقافى للأفراد قدرتها على الصمود وتقديم أجوبة لأجيال جديدة من الشباب.
وعلى الرغم من أن فرنسا ستسعى لاعادة هيكلة ما تبقى لها من قوات ولن تذهب لحد إعلان إنسحاب قواتها على النحو الذى أعلنته الولايات المتحدة في أفغانستان إلا أن قرار فرنسا القاضى بإغلاق سفارتها بالنيجر يشكل علامة فارقة فى تاريخ وحاضر ومستقبل الوجود الفرنسي فى أفريقيا.
تبدو أفريقيا مثل علامة الاستفهام على خريطة العالم…..ترى ماذا تخبئ لها أقدار العام الجديد ….!
إقرأ المزيد
السفير عبد المحمود عبد الحليم يكتب : قراءة فى تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على مشروع قرار غزة