كيمو بن محمد كوندي يكتب : مفهوم مصطلح ” فهم الواقع”في الدّرس الفقهيّ الإفتائيّ – عَرْضٌ وتحليلٌ ونقدٌ
بادئ ذي بدء” إنه ليس بخافٍ على أحد من أهل العلم والمعرفة وأولي الألباب والنّهى أن الفتوى أمرها عظيم، وخطرها جسيم، جعلها الإمام القرافي المالكي في كتابه (الإحكام) من باب النيابة عن صاحب الشّرع الشّريف في بيان الأحكام للنّاس، ووَفّق تعبير الإمام القيم إبن القيم الحنبلي في كتابه القيم (إعلام الموقّعين) بأنّها التّوقيع عن ربٍّ العالمين.
وفضلا عن هذا، فإن ربط الفقه الإسلامي الأصيل بالواقع المعيش باتَ اليومَ أمرًا ضروريًّا أكثرَ من أي وقت مضى، وبخاصة في ظلٍّ تحدّيات وإكراهات هذا العالم المتسارع؛ إذ من خلاله يتمّ تصوّر هذه النوازل الفقهيّة المستحدثة والقضايا العصرية المستفحلة تصوّرا أمينا قبل البوح أو قبل البتُّ فيها ، ذلك لأنَّ المرجوَّ من الفقيه أو المفتي في الفتوى” هو تحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع، وتسديد واقع الحياة بتعاليم الشّرع الحنيف، وتحقيق وصل أمين ومكين بين وحي السّماء وواقع الأرض.
أجل.. لئن عرّف الإمام الهاشمي الشّافعي حينًا من الدّهر علمَ الفقه ” بأنه العلم بالأحكام الشّرعيّة العمليّة “المكتَسبُ” من أدلتها التفصيلية، فإنّ هذا التعريف من وجهة نظر الباحث يكاد يكون اليوم تعريفا ناقصا أو تعريفا لا يتناسب مع عصرنا الحاضر إذا لم ينضاف إليه” معرفة الواقع، والفقه فيه، ومعرفة الواجب في الواقع؛ ذلك لأنّ الفقه أكبر وأوسع وأعمق من أن يكون مجرّد معرفة الأحكام الشّرعيّة العمليّة المكتَسبُ من أدلتها التفصيلية.
فالفقه في هذه الحالة مكوّن من عنصر واحد فقط وهو: “استنباط الأحكام”، وأما إذا أضيفت إليه العبارة الجوزية أعني- عبارة ابن قيّم الجوزية المتمثّل في معرفة الواقع، والفقه فيه، وفهم الواجب في الواقع؛ عندئذ يصيرُ الفقه كأنه مكوّن على ثلاثة عناصر: (( استنباط الأحكام، معرفة الواقع، الوصل بينهما)). وهذا أعمّ وأشمل وأعمق وأوسع من أن يبقى الفقه مجرّد استنباط الأحكام.
وتأسيسا على هذا، فإنّ علم الفقه يُراد به في فلسفة عصرنا الرّاهن: العلمُ بالأحكام الشّرعيّة العمليّة المكتَسبُ من أدلتها التفصيليّة من خلال معرفة الواقع، والفقه فيه، ومعرفة الواجب في الواقع.
ولئن اتّفق أهل العلم باللّغة وفقه اللّغة قديما وحديثا على أنّ المراد بالفقه لغة: هو الفهم؛ فإن الفهم المطلوب اليومَ إذًا هو ذلك الفهم الذي يؤدّي بالفقيه أو بالمفتي إلى معرفة الواقع والفقه فيه، ومعرفة الواجب في الواقع قبل استنباط الأحكام الشّرعيّة.
وتعقيبا على هذا، فإن القاعدةَ الأصوليَّةَ المنطقيَّةَ القارَّةَ تقول : الحكم على شيئ فرع عن تصوّره، وإذِ الأمرُ كذلك، فمالمراد” بفهم الواقع؟ وهل فهم هذا الواقع أمرٌ يتطلّب من الفقيه أومن المفتي ضرورة الإقامة الجبرية في بلده أو في قارته حتى يتسنّى له”معرفة الواقع” وفهمه وإدراكه كما يتصوَّره البعض؟ وهل كلّ الدّعاة والوعاظ يعرفون هذا الواقع كما يُخيّل إلى بعض النّاس في مواقع التواصل الاجتماعي؟
وللإجابة على هذه التّساؤلات العلميّة المنهجيّة الموضوعيّة المهمّة التي سبقت الإشارة إليها آنفا” تقتضي أن يلقي الباحثُ نظرة عَجْلَى إلى المراد بمصطلح” فهم الواقع” في الدرس الفقهي الإفتائي ابتداء، ثم يشفع كلامه بحديث مفصَّل يجيب عن هذه التّساؤلات العلمية المنهجيّة المطروحة قبل قليل.
وتحقيقا لهذا، فإنّ نظرةً متأنِّيةً في جملة حسنة من المدوَّنات الفقهيَّة الإفتائيَّة ككتاب “ضوابط الاختيار الفقهي عند النّوازل” يجد النّاظر أنّ جملة طيِّبة من العلماء الرّاسخين على رأسهم مالك بن نبي وغيره من العلماء الذين قاموا بمحاولة ضبط مفهوم الواقع في السّياق الفقهي الإفتائي وهذا نصّ ما قالوه وقرّروه بهذا الصدد:( هذا الواقع يمكن أن يقسّم إلى عوالم ندركها في نفسها- كل عالم له طريقه في إدراكه- كما يجب علينا أن ندرك أن العلاقات البينيّة بين هذه العوالم وهي: عالم الأشياء، عالم الأشخاص، عالم الأحداث، عالم الأفكار، ويحيط بها ويربطها عالم النّظم، وليس هذا فحسب بل جعلوا محور إدراك هذا الترتيب هو الثّقافة).
وبناء على هذا، فإن المراد بمصطلح “فهم الواقع” يُراد به: معرفة هذه العوالم الأربعة الآتية تباعا:
العالم الأول: (عالم الأشياء)؛ فالسّيارة، والطّائرات، والمصباح.. . وغيرها.
ومن عالم الأشياء ما يمكن أن نتملّكه كالحيوانات والبهائم والبقرة والحصان وغيرها.
العالم الثاني: هو( عالم الأشخاص) والأشخاص تشمل الإنسان، وفي عصرنا الحاضر أصبح لدينا شخصيتان:
١- شخصيّة طبيعيّة لها ذمَّة، لها عقل، لها نفس ناطقة، لها محاسبة عند الله.
٢- وشخصية اعتبارية نشأتْ في صور الشركات التي تطوّرت بعد ذلك إلى شركات المساهمة، والشركات العابرة للقارات، والمصارف، وبدأت تنفصل انفصالا شديدا عن أصحابها حتى مثّلتْ شخصية موجودة؛ لكنها على الرغم من وجودها، فإنها شخصية اعتبارية، أو شخصية معنوية؛ فيجب علينا أن نفهم الفرق بين الشخصيتين.
العالم الثالث:( عالم الأحداث)، كتلك الأحداث التي تدور حولنا : الدولار انخفض سعره أو غلا، هناك حرب قائمة في المنطقة الفلانية، هناك مؤتمر سوف يعقد في مكان كذا يتحدث فيه المشاركون عن أحداث معينة، فمثل هذه الأحداث لها منهج للتعامل، ولها اعتبار؛ لأن هذه الأحداث يكتنفها الزمان، ويكتنفها المكان، وتكتنفها الأحوال، وتكتنفها الأشخاص وهكذا دواليكم.
إذا، فهذه الأمور كلها تندرج منطقَ علما ويقينا ضمن إدراك الواقع وفهمه.
العالم الرابع: هو ( عالم الأفكار)، هناك فلسفات كثيرة ورؤى كثيرة مرتبطة بنموذج معرفي، وإطار كلّيّ للإنسان وللكون والحياة، ولِما قبل ذلك ولِما بعد ذلك، هذه الأفكار تجيب في بعضها عن الأسئلة الكبرى، والأسئلة الكبرى هي : أين نحن؟ وماذا نفعل؟ وماذا سيكون غدا؟ هذه الأفكار متشابكة متشعبة للغاية!!.
وعلى أية حالٍ، فهذه هي عناصر ومرتكزات مصطلح” فهم الواقع”، لكن الواقع ليس محدّدا بهذه الكيفية؛ بل إنه متداخل ، شديد التّركيب، شديد التّعقيب، شديد التّغيّر، شديد التّدهور في بعض الأحيان؛ لذلك..فهناك علاقاتٌ بينيّةٌ بين كلّ عنصر من هذه العناصر والثلاثة الأخرى، وهذه العلاقات البينية تجعل هناك فارقا بين ((الفعل البشري)) وبين((التصرف البشري)).
أما ((التصرّفات)) فهناك علاقات بينية عميقة لابد من إدراك كنهها؛ كما أن هناك قواعد يجب مراعاتها، منها مثلا (( ارتكاب أخف الضررين واجب))، فكيف أصدر الحكم أو أفتي وأنا لا أعرف الضّرر الأكبر والضرر الأقل في هذا؟ .
على أنه من الجدير تقريره أن قضية” فهم الواقع” لا تنتهي عند معرفة هذه العوالم الأربعة التي ذكرتها آنفا، بل يمتدّ الأمرُ لِيشمَلَ كذلك ضرورة التّفريق بين هذا الواقع المتمثل في هذه العوالم الأربعة السّابقة الذّكر وبين الواقع الذي كان يعيشه سيِّدُنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم – وهو مايصطلح عليه اليوم في صناعة الفتوى أو في الدّرس الفقهيّ الإفتائيّ ب( بيئة النّص)، وكذلك ضرورة التفريق بين الواقع الذي كان يعيش فيه الفقهاء أهل الاجتهاد – وهو ما يصطلح عليه اليوم أيضا في الدّرس الفقهي الإفتائي ب( بيئة الاجتهاد) حتى يستطيع الفقيه أن يفهم النّص الشّرعي وعلاقته بالواقع ، وبهذا الأمر يستطيع أن يدرك الأحكام التي تقبل التّغيير والتي لا تقبله.
مثال ذلك وبالمثال يتضح المقال:
ماروى جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرُّقبى أنه قال: (( الرُّقبى لمن أرقبها)).
وروى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما – أنه صلى الله عليه وسلم قال(( لايحلّ الرُّقبى ولا العمرى فمن عمر شيئا فهو له، ومن أقرب شيئا فهو له))* سنن النسائي*.
وحاصله أن مَن قال لآخر: داري لك رقبى فإن ذلك يتم هبة منجزة ، ويكون الدار موهوبة له إلى الأبد( بالشّروط المعروفة للهبة) ، ولذلك ذهب الجمهور إلى أن الرقبى باطلة، بمعنى أن هذا الكلام لا أثر له ، فتبقى الدار مملوكة للمرقب. وظاهر هذه الفتوى أنها مخالفة للنص.
ولكنّ الحقيقة كما أقرّها الفقهاء أن الرُّقبى التي أبطلها الإمام أبو حنيفة رحمه الله- غير الرّقبى التي أنفذها النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- هبة؛ وذلك لأنّ الرّقبى في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم- كانت بمعنى أنها على منجزة بشرط أنه إن مات الموهوب قبل الواهب، فإن الدار الموهوبة ترجع إلى الواهب، وهذا شرط باطل، فصحت الهبة، وبطل الشرط، لأن الهبة لاتبطل بالشروط الفاسدة، وإنما يبطل الشرط، ولذلك قال – صلى الله عليه وسلم- (( ومن أرقب شيئا فهو له)).
وأما الرّقبى التي أبطلها الإمام أبو حنيفة- رحمه الله تعالى- فهي هبة معلّقة بموت الواهب، والهبة لا تقبل التعليق، فلذلك أبطلها الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى.
وتأكيدا لهذا، يقول الشّيخ الأنور في كتابه ( فيض الباري) مانصّه( والحاصل: أن معنى الرّقبى العرفي تغير في عهد النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- ولعلّه تغيّر في عهد أبي حنيفة رحمه الله تعالى،فما حكم عليه بالبطلان لم يتناوله النص، فإنه كان واردا بمعنى آخر).
وأيّا مّا كان الأمر” فقد أضحى واضحًا أمام القارئ المراد بمصطلح” فهم الواقع” مبنى ومعنى، مغزى ومقصدا في الدّرس الفقهي الإفتائي، وبناء على هذا، فحقيق على الباحث تحرير القول في السّؤال المنهجيّ الأوّل المتمثّل في كون فهم الواقع أمرٌ يتطلّب من الفقيه أومن المفتي ضرورة الإقامة في بلده أوفي قارته أم لا؟ وينتظم جواب هذا السُّؤال في السّطور التالية:
بَدَاءَةً.. ليس مقصود الباحث(بالمفتي أوالفقيه) في هذا المقال من يتم تعيينه مفتيا من قبل جهات رسميّة في دولة ما، أو في مؤسّسة ما، وإنما قصده هنا بالمفتي هو الفقيه الذي بلغ رتبة الاجتهاد، أومن هو مؤهل علميا لعلوم الإفتاء… فليتأمل.
عودا على بدء …السّؤال يقول : هل “فهم الواقع”أمر يتطلّب من الفقيه أو من المفتي ضرورة الإقامة في بلده كي يتسنى من فهم الواقع قبل الفتوى أم لا؟
وللإجابة على هذا السّؤال: لاشكّ أن الجواب لا.. إذ ليس بالضرورة أن يكون المفتي أو الفقيه دائم الإقامة في بلده أو في قارته التي يفتي في شؤونها كما يخيّل إلى بعض الناس، بل يكفي من فهم الفقيه أو المفتي واقع مجتمعه الذي يفتي في شؤونها أن يكون قد نشأ وترعرع فيه وتعرّف على عادات الناس وتقاليدهم، أو أن يكون قد انخرط في عالم السّياسة، وذلك لأنّ التَّراكم الفكري والمعرفي في عالم السياسة بالنسبة له سيسانده على فهم واقعه بمختلف أبعاده وملابساته، وما دقّة وعمق فقه ابن حزم وابن رشد الحفيد وغيرهما من الفقهاء إلاّ نتيجة ممخّضة عن ممارستهم وانخراطهم في عالم السّياسة،
ومن قرأ مؤلفات هذين الجبلين العظيمين من جبال الفقه والمعرفة يلمس ذلك بوضوح، وماكتاب” الإحكام” والمُحلّى” لابن حزم، وكتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الحفيد منكم ببعيد.
وبناء على هذا، فليس من حصيف الرّأي، ولا من سديد القول، ولا من المقبول في المنطق العقليّ الواعي، أن أقول مثلا لفقيه قضى خمسة عشر عاما يتقلَّب بين مناصب الوزاريّة المختلفة، وأدرك واقع مجتمعه السّياسي والاقتصادي والاجتماعي والدّيني، ثم أقول له بعد كل هذه التّجارب يامعالي الوزير لا يحقّ لك أن تفتي لأنك الآن مقيم خارج بلدك أو خارج قارتك… أليس هذا عين الإجحاف في حقّ هذا الفقيه الوزير؟
ولذلك، فلا يعني عدم وجود الفقيه في بلده أو في قارته عدمَ فهمه وعدمَ إدراكه وعدمَ معرفته لواقع بلده وواقع قارته كما يخيّل إلى بعض الناس، بل يكفي اليوم لمعرفة واقع مجتمع من المجتمعات ديمومة متابعة برامج التلفيزيونية الفضائية للاطلاع على الأحداث الجديدة والتطورات المتصاعدة، وحتى في مواقع التواصل الاجتماعي.
وفضلا عن هذا، فإنه ليس من شروط الفتوى، ولا من ضوابطها أن يكون الفقيه مقيما في بلده حتى تتسنّى له ممارسة الإفتاء، ولكنّ الشّرط كلُّ الشرط والعبرة كلُّ العبرة والمعيار كلُّ المعيار في كون الفقيه فاهما وعارفا ومدركا لواقعه الذي يفتي فيه وإن كان مقيما بعدئذ في الصّين أو في جاكرتا، أو في أقصى أنحاء العالم.
واعتمادا على هذا، فإن عدم وجود الفقيه في بلده أو في قارته لا أثرَ له في قبول فتواه أوعدم قبولها.. كلا..بل قد يكون الفقيه موجودا في بلده وفي قارته ومع ذلك غير مدرك لواقعه كما سنصل إليه عند الحديث عن السّؤال المنهجي الثاني، مما يؤكِّد تأكيدا واضحا أنّ المعيار كلّ المعيار في فهم الفقيه لواقعه ومتابعته لأحداثه وتطوّراته بغضّ النظر عن محل إقامته.
وإذِ الأمر كذلك، فهيّا بنا لنحط رحالنا في السَّؤال المنهجيّ الثاني، يشفعه الباحث بحديث مفصّل في الفِقرات الآتية بمشيئة الله تعالى.
وأمَّا السَّؤال المنهجيُّ الثَّاني المتمثّل في كون كلّ الدّعاة يفهمون الواقع قبل الفتوى أم لا.
وبعبارة أخرى” هل كل الدّعاة الذين كرسوا حياتهم في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه يفهمون الواقع قبل الفتوى كما يتصوّر بعض النّاس في مواقع التّواصل الاجتماعي وغيرها من الفضائيات؟
من الواضح في هذا الصّدد أن الجواب لا..!! رُغم حبّ الباحث واحترامه لكلّ الدّعاة وكلّ الوعاظ أينما كانوا وحيث ما ارتحلوا، ورُغم تقديره لجهودهم العظام وتضحياتهم الجسام في تحقيق مقصد انتظام أمر الدّعوة والإرشاد، وتحقيق قيّوميّة ديننا الحنيف، غيرأن هذه المعطيات هي الحقيقة الواقعيّة المنطقيّة الثّابتة.
على أنه من الحريّ تقريره أنَّ الباحث لاينكر وجود بعض الدّعاة وبعض الوعاظ الذين يدركون واقعهم قبل الفتوى وإن كانوا في حكم النّادر، والنّادر لاحكم له عند أهل العلم بالأصول، بل البديهة المنطقيّة تقول:”إن صدق الحكم على المجموع لا يلزم من صدقه على الجميع”.
وبالتّالي فكل مفتٍ أوفقيه داعٍ وواعظٍ وليس كلّ داع وواعظ مفتيا وفقيهًا كما أنّ كلَّ مجتهدٍ مفتٍ وليس كلُّ مفتٍ مجتهدا.. فليتأمل.
وبناء على هذا، فإذا انهار هذا الأساس، انهار معه مقولة من حَصرَ “فهم الواقع” على الدّعاة الذين كرّسوا حياتهم في سبيل الدعوة إلى الله- حسب تعبيره- باستخدام أداة الحصر “إنما”،
وهذا خَلْطٌ ولَبْسٌ وغَلَطٌ يبرأ منه العلم والمنطق والعدل والإنصاف.
قل لي بربك” هل كلُّ داعٍ وكلّ واعظٍ يُحيط علما بطبيعة الضّمان المصرفيّ مثلا، وبأسلوب العمل فيه، وبأهدافه قبل الفتوى فيه؟
وخَبِّرْني ثانيا: هل كلُّ داعٍ وكلُّ واعظٍ يفهم واقع شركات التّمويل كوسيط في بعض المعاملات المالية، وكيف يتمّ دخولها كوسيط في المعاملة، وكيفية الوساطة وحقيقتها، وغير ذلك مما يلزم لتصور واقع الشيئ وحقيقته قبل الفتوى ؟
وخَبِّرْني ثالثا: هل كلّ داعٍ وكلّ واعظٍ يفهم واقع المعاملات الماليّة الحديثة قبل الفتوى..كالفوركس:( Fores)، والتداول مع منصة إكسنس( Exness)، واللوتري اليانصيت(Leterie)
والبيع الإلكتروني في وقت الجمعة، والتّمييز بين العقود المسمّاة وغير المسمّاة في الفقه الإسلامي؟
لاشك أن الجواب لا..!! وبناء على هذا، فإن إيراد كلّ هذه التساؤلات ليس القصد منها محاولة الاستخفاف أوالحط من شأن الدّعاة الوعاظ والعياذ بالله، ولكنْ من باب الإشارة إلى أن لكلّ شخصٍ مهمّته ومجاله في هذه الحياة حتى لا يتمّ خَلْطُ الأوراق، فالدّاعي والواعظ مهمتها ومجالهما معروف” وهو الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وإن اشتركهما في هذه المهمّة عامة المسلمين، بدليل قوله تعالى(( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُوْنَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُوْنَ بِالله..)) آل عمران آية(١٠١).
وهي الدّعوة المتمثّلة في الهداية الإرشادية لا الهداية التوفيقيّة لأنّها من الله سبحانه وتعالى، بدليل قوله تعالى(( إِنّكَ لاَ تَهْدِيْ مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهَدِيْ مَن يَشَاذا هو أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِيْنَ.)) القصص – آية(٥٦) أي: الهداية التوفيقية التي من الله.
وقوله(( وَإنَّكَ لَتَهْدِيْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْم)) الشّورى – آية(٥٢)
أي: الهداية الإرشادية التي من الأنبياء والرسل والبشر…
وأمالفقيه الأصولي المفتي المتشبّع فمهمَّتُه كما لايخفى على شريف علمكم” هو التّوقيع عن ربِّ العالمين، بعد معرفة الأحكام الشّرعيّة العمليّة المكتَسبُ من أدلتها التفصيلية، من معرفة الواقع،والفقه فيه، ومعرفة الواجب في الواقع،وكذلك معرفة أصول الفتوى ومنهجيتها، وشروطها وآدابها وضوابطها باعتبار أنها صناعة تُتعلّم كبقية التخصّصات العلمية المختلفة.
قال تعالى(( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُوْنِ)) النّحل : آية(٤٣).
وأهل الذّكر” هم أهل الاجتهاد في كلّ تخصّص وفي كلّ فنّ.
ولذا.. فلا يجوز لأحد كائنا من كان إقتحام حمى الفتوى ولا اغتصابها ولا التجاسر عليها بدعوى معرفة الواقع دون توافر شروطها وآدابها وضوابطها فهذا أمرٌ محرّمٌ شرعا ويُفترض أن يُجَرّم قانونا!!.
وبناء على هذا، فقد نبّه العلماء قديما وحديثا إلى خطورة الكلام في الدّين بغير علم، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى( إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب).
ويقول ابن حزم في كتابه الأخلاق والسّير(لا آفة على العلوم وأهلها أضرّ من الدّخلاء فيها وهم من غير أهلها؛ فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون).
ولذا..فلا ينبغي التّعاطي مع قضايا الفتوى بشكل عاطفي
أو بشكل شخصي، وإنما هي قضية فقهية إفتائية في غاية من الخطورة؛ لأنها مهمّةٌ إلهيّةٌ ساميةٌ- مهمّةُالتّوقيع عن ربِّ العالمين، إذًا فلا يمكن الاستهانةُ بها، ولاالتّساهل في أمرها، بل يُغتفر في مجال غير الفتوى مالا يُغتفر في مجال الفتوى فليتأمل.
وعلى العموم، فإن هذا التّنبيه والتحذير لاينحصر على الدّعاة والوعاظ فحسْب بل يمتدّ لِيَشْمَلَ أيضا كذلك بعضَ المتخصِّصين في الفقه والأصول وغيرهما من المتخصّصين في العلوم المندرجة تحت علوم الدّراسات الإسلامية، الأمر الذي يفسّرُ أنّ القضيّةَ ليستْ قضيّةً شخصيَّةً ولا قضيَّةً عاطفيَّةً بقدر ما هي قضيَّةٌ فقهيَّةٌ إفتائيَّةٌ” وهي مهمّةُ التّوقيع عن ربِّ العزّة والجلال.
وقد راقتْني جدا مقولة أحد الفقهاء المعاصرين بهذا الصَّدد، وهو الشَّيخ العلاّمة سليم العوا عندما أكِّد هذا الأمر في كتابه الموسوم”بمنهج معالجة القضايا المعاصرة في ضوء الفقه الإسلامي” مانصُّه:( إنَّ الفقهاء الذين لم يحيطوا علما بطبيعة الضمان المصرفي مثلا، ولا أسلوب العمل فيه، ولا بأهدافه، غير المؤهلين للحكم عليه من حيث حظره وإباحته، وكذلك الاقتصاديون الذين لم يعرفوا من علم الفقه وأصول الفقه والقواعد الفقهية ومقاصد الشريعة إلا النزر اليسير غير مؤهلين للحكم في هذه المشكلة).
ويقول أيضا في كتاب آخر له وهو كتاب” الفقه الإسلامي في طريق التجديد” وهذا نصّ ما قاله بهذا الصدد:(إن العلم الديني تخصص شديد الدقة والعمق، لايحلّ لأحد أن يقول فيه إلا إذا كان لذلك الذي يقبله المجتمع العلمي).
ومهما يكن من شيئ، فإنّ مهمة الفتوى ليست مهمة عابرة بل هي مهمَّةٌ تولَّى بها ربّ العزة والجلال كما في قوله تعالى في سورة النساء(( وَيَسْتَفْتُوْنَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيْكُمْ فِيْهِنَّ وَمَايُتْلَى عَلَيكُمْ فِي الكتَابِ فِي يَتَامَى النّسَاء الاتِيْ لاَ تُؤْتُوْنَهُنَّ مَاكُتِبَ لَهُنَّ..)) آية:١٧٦.
ففي المستدرك على الصّحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من قالَ عليَّ مالم أقل، فليتبوأْ بيتًا مِنْ جَهنَّم، ومن أفتَى بغير علمٍ كان إِثمُه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلمُ الرشدَ في غيره، فقد خَانَه)).
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( من أفتى الناس بغير علمٍ لعنته ملائكة السماء والأرض)).
أخرجه السيوطي في الجامع الصغير.
ويقول ابن قيِّم الجوزية في إعلام الموقّعين عن ربِّ العالمين:
( ولِيَعلم المُفْتِي عمن يَنُوبُ في فَتْوَاه، وليُوقِنْ أنَّه مَسؤولٌ غدًا وموقوفٌ بين يدي الله).
هذا..والله يقول الحقّ، وهو أعلى وأعلم، وإليه يُرجع الأمر كله.
وبهذا أصل إلى نهاية هذا المقال المتواضع، آملا أن أكون قد وفّقتُ فيما طرحته من وجهات نظر، ورجائي في الله أن ينفع بهذا الجهد المقل، وأن يجعله في ميزان حسنات والديَّ اللذين نذراني لخدمة العلم الشّرعي وأهله، إن أريد إلاّ الإصلاح ماستطعت وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب!.
وصلّى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا مزيدا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* كيمو بن محمد كوندي باحث في جامعة القاهرة بكلِّيَّة دار العلوم/ قسم الشَّريعة الإسلاميَّة.
اقرأ المزيد
الرئيس السيسي يبحث هاتفيا مع « موسيفيني » الأوضاع في السودان وشرق أفريقيا والقرن الإفريقي