لحسن العسبي يكتب : من الغباء أن يدفع الإنسان ثمن الخطأ الواحد مرتين
حين جاء رجل السياسة الإنجليزي “اللورد هنري شارل كيث لانزدوون” إلى وزارة الخارجية في لندن سنة 1900، أي مع بداية القرن العشرين، تغيرت سياسة بريطانيا العظمى تغيرا راديكاليا تجاه ما كانت تسميه أدبياتها السياسية ب “الدول الشرقية”، الممتدة بالنسبة لحكومة رئيس الوزراء اللورد سالزبوري ومهندسي دبلوماسيتها ، حينها، من المغرب حتى أفغانستان ، وكان اليقين المعلن ل “لانزدوون” الذي بقي على رأس الخارجية البريطانية حتى سنة 1906، أن الدول الشرقية تلك، تسير بسرعة نحو التفسخ ، وأن لندن بالتالي، مستعدة، لغايات تجارية صناعية وطاقية محضة، أن تقتسم أراضي الشرق تلك، وتحولها إلى مناطق نفوذ واسعة، بالتنسيق مع كبريات العواصم الغربية (أساسا فرنسا بحزبها الإستعماري الشهير حينها).
بطبيعة الحال، نحن هنا بإزاء منطق لاقتسام الغنائم.. وقصة ما وقع بعد ذلك، من إتفاقية “سايكس – بيكو” الشهيرة، سنة 1916 معروفة، بل إن خريطة الدول القومية في “البلاد الشرقية” (أي بلداننا العربية الإسلامية التي نعرفها اليوم)، بعواصمها المتعددة، هي وليدة ذلك المخطط الذي نسب لوزيري خارجية فرنسا وبريطانيا (جورج بيكو و مارك سايكس).
البداية
لقد كانت البداية، في ترجمة ذلك القرار السياسي البريطاني حينها (أي ابتداء من سنة 1900)، على مستوى خريطة بلاد العرب مرتبطة أولا بمصير كل من المغرب ومصر، كونهما الدولتان الوحيدتان القائمتان فعليا في كل بلاد الشرق تلك، خارج نفوذ السلطة العثمانية، التي حاولت القيام بإصلاحات هيكيلية للدولة، عرفت في المغرب ب “الإصلاحات الحسنية” على مستوى الجيش والبريد والجمارك والعملة (الريال الحسني)، نسبة إلى السلطان مولاي الحسن الأول (1873- 1894) و “الإصلاحات العزيزية” على مستوى الضرائب (أساسا ضريبة الترتيب الموحدة) نسبة إلى السلطان مولاي عبد العزيز (1894 – 1908)، بينما عرفت في مصر ب “إصلاحات الخديوي إسماعيل” (1863 – 1879) التحديثية على مستوى البنية التحتية للدولة المصرية (الطرق والسكك الحديدية والتلغراف والصحة)، ويشاء مكر الأمور أن تتم الإطاحة بالسلطان مولاي عبد العزيز وبالخديوي إسماعيل من العرش، مع تسجيل أنه بالنسبة ل ” الإصلاحات الحسنية” و”الإصلاحات العزيزية” بالمغرب، فهي إمتداد لمحاولات إصلاحية جنينية سابقة منذ عهد السلطان محمد الرابع، أي محمد بن عبد الرحمان (1859 – 1873)، وهي جميعها إصلاحات ترجمت هَمًّا لجزء من النخبة المغربية في أواسط و أواخر القرن 19 في إعادة بنينة الدولة بشكل حديث، فيما باقي الشساعة العربية (عدا الجزائر التي سقطت مناطقها الشمالية المتوسطية باكرا في يد الإستعمار الإستيطاني الفرنسي منذ 1830 وتبعها احتلال باريس لتونس سنة 1881)، ظلت شكلا هلاميا لولايات (إيالات) تابعة إلى سلطة الباب العالي العثماني.
مستقبل بلاد الشرق
إننا لو تتبعنا خيط القصة التاريخية تلك، النائمة في أرشيفات الخارجية البريطانية والفرنسية والألمانية والإسبانية (1)، لوجدنا أن أول الإتفاق الذي وقع بخصوص مستقبل “بلاد الشرق” هذه، كان الإتفاق السري بين لندن وباريس سنة 1904، الذي حدد عمليا مصير كل من المغرب ومصر نهائيا، 8 سنوات قبل أن يصبح المغرب فعليا محمية فرنسية – إسبانية سنة 1912، وتصبح مصر محمية بريطانية ابتداء من سنة 1914.
كان اتفاق “لانزدوون” مع وزير خارجية فرنسا آنذاك “ثيوفيل دلكاسي” سنة 1904 أول التدشين لاقتسام غنائم الشرق، وكان لافتا أن لندن ، الحليف الأول للمغرب، منذ زمن السفير المفوض دارموند هاي وابنه جون بعده في أواسط القرن 19 (قضيا معا في المغرب أكثر من 52 سنة كسفراء مفوضين للتاج البريطاني) كانت الرابح الأكبر من تلك الصفقة ضمن ما كان يعرف بالسياسة المتوسطية للتاج البريطاني، قبل أن يتحول الأمر إلى السياسة الأطلنتية، بعد الحربين العالميتين، التي يجسدها عمليا إلى اليوم، الحلف الأطلسي، لقد ضربت لندن، حينها، أربعة عصافير بحجر واحد: إذ من جهة ربحت مصر والسودان، كممر إستراتيجي بين آسيا (الهند) والمتوسط، وتحكمت عمليا في وسط العالم العربي والإسلامي.
ومن جهة ثانية، كسبت حليفا أوروبيا، إسمه إسبانيا ، ضعيف ومثخن بفقدانه آخر مستعمراته الأمريكية وهي جزيرة كوبا (1898) ، مما جعل مدريد مطيعة لأوامرها في سياستها المتوسطية، ثم ثالثا ربحت حرية التجارة عبر مضيق جبل طارق، من خلال إلزام باريس بجعل منطقة طنجة المغربية، منطقة دولية حرة.
وأخيرا، أنها لم تمنح لفرنسا قط اليد المطلقة في البحر المتوسط، من خلال إلحاحها الشديد على منح الضفة المتوسطية للمغرب لمدريد. بل وألزمت باريس أن تبقي على الوضعية التجارية للتجار الإنجليز ومحمييهم في كل موانئ المغرب الأطلسية، وأن يكون لأبناكها حصة في كل مشاريع الطرق والسكك الحديدية والفلاحة به.
إن ما يثير، في هذه الخطاطة، هو أن نفس التعبير الغربي الذي أطلقته بريطانيا سنة 1900، الذي يتحدث عن “بلاد الشرق” من المغرب حتى أفغانستان ، قد عاد في سنوات بداية الألفية الجديدة (القرن 21) من خلال دراسات جيو – استراتيجية أمريكية، تتحدث عن آلية تسريع التحول السياسي في بلدان الشرق، بالشكل الذي يترجم ملامح نظام عربي جديد، من خلال إعادة توزيع متلاحق لمنطق المصالح المرتبطة ببلاد العرب، ضمن منظومة المصالح العالمية. بل وأن يكون ذلك متساوقا مع نظام السوق، ضمن “السياسة الأطلنتية” للنظام العالمي الجديد الذي تقوده واشنطن، عمليا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومنذ مشروع مارشال الضخم لإعادة بناء أروبا (الغربية حينها)، بل إن تلك الدراسات الأمريكية ، التي نشرت بعض تفاصيلها جريدة “الواشنطن بوسط” (2)، تتحدث بالضبط، بذات اللغة القديمة، عن إلحاحية تغيير سياسات التعامل مع “الدول الشرقية” بذات التحديد الجغرافي، من المغرب حتى أفغانستان ، مما يرسخ ذلك التحليل الثابت في الرؤية الإستراتيجية الغربية، الذي يرى لهذا الإمتداد الجغرافي الذي نشكله كعرب ومسلمين، كوحدة جغرافية موحدة.
الواقع إنها رؤية تتأسس على نتائج دراسات ميدانية، سوسيولوجية وانثربولوجية واستكشافية، ممتدة على أكثر من 170 سنة، سمحت بخلق باب معرفية مستقلة في مختلف عواصم دول الحلف الأطلنتي، تعرف ب “الدراسات الشرقية” وهي أبحاث تقوم مرجعا لكل صاحب قرار سياسي في بعده الإستراتيجي بتلك المجموعة الأطلنتية.
ذاكرتنا الجماعية
بل، لعل المفارقة الكبرى اليوم، أن جزء هائلا من ذاكرتنا الجماعية، عربيا وإسلاميا، لا نملك عنها مراجع دامغة، بالدليل المادي للبحث الميداني، غير تلك التي يوفرها لنا أرشيف وزارات الخارجية ووزارات الحربية ومعاهد البحث الجامعية، بمختلف العواصم الغربية. وأن أجزاء مفصلية من ذاكرتنا الجماعية، لا تزال نائمة في أرشيفات تلك الوزارات، ضمن تقاريرها السرية السابقة، وضمن نتائج أبحاثها العلمية، وأنها تتطلب نفض الغبار عنها، حتى نفهم شجرة أنساب تطورنا المجتمعي والفكري والسلوكي خلال ل 150 سنة الماضية، حتى لحظة ما وصف تواصليا ب “الربيع العربي” منذ سنة 2010.
لست في حاجة، إلى أن أشير هنا، أنني لا أسعى قط إلى تغليط القارئ المفترض لهذه السطور، عبر محاولة جره للإقتناع بمنطق التحليل بالمؤامرة ، بل، إن الغاية، على العكس من ذلك تماما، هي محاولة شحذ ملكة الإنتباه، عبر الحقيقة التاريخية التي تتحدانا جميعا، والتي نحن العرب والمسلمون موضوع لها منذ أكثر من قرن من الزمان. وأساسا، لفت الإنتباه إلى إلحاحية امتلاك الرؤية الإستراتيجية للوقائع والأحداث، التي مهم ومفيد أن تحكم التحليل العربي، حتى نستوعب جميعا تحديات حقل ألغام المصالح العالمية، الذي قدرنا أن نخطو فوقه، وأمر هذا الوعي الإستراتيجي، على قدر ما هو ملح لدى الفرد العربي المواطن، على قدر ما هو أشد إلحاحية عند النخبة العربية، وعند كل صاحب قرار سياسي في دنيا هذه الجغرافية الممتدة من المغرب حتى أفغانستان. علما أن حقل ألغام المصالح تلك، في الأول منه دوما، مصادر الطاقة والتجارة.
كان الأمر في نهاية القرن 19، مرتبطا بالفحم والقطن والذهب، ومنذ 70 سنة إلى اليوم، أصبح متعلقا بالنفط والغاز ويورانيوم الفوسفاط والأدمغة والطاقات المتجددة، وأيضا سوق الإستهلاك.
إذ يكفي أن نستحضر أن ثلاث أرباع مصادر الطاقة في العالم توجد بين المغرب وأفغانستان ، وأن بها أكبر المعابر الإستراتيجية الحاسمة للتجارة العالمية (مضيق جبل طارق، ممر السويس ، رأس المندب، مضيق هرمز، ممر البوسفور). وبها تجمعات بشرية منتجة للثروة، لها كل الممكنات لتعزيز الدخل الفردي، الذي هو الرافعة لأي مستوى استهلاك مطلوب عالميا. وهنا تحضر ممكنات مجتمعات الخليج وتركيا ومصر وبلاد المغرب العربي كوحدات واعدة هامة.
المصالح الحيوية للغرب
يشاء مكر المصالح الحيوية للغرب المتقدم، السائد، القوي تقنيا وعسكريا، مرة أخرى أن يكون المغرب، اليوم، ورقة واعدة.
بل وأن يكون النموذج المثالي الذي مطلوب أن يقتدى به في مسلسل الإصلاح والتحول السياسي الديمقراطي التراكمي، في كل خريطة التحول ببلاد الشرق. وهذا أمر يجب النظر إليه كمكسب للمغرب ولمنطقة المغرب الكبير.
وليس اعتباطا أن حازت الرباط صفة العضو الخاص، منذ سنوات، ضمن الحلف الأطلسي من خارج دول الحلف الغربية، وأن تكون ثالث دولة ترسم معها واشنطن حوارا استراتيجيا (رباعي الأذرع) بعد الصين والهند.
وهنا أكيد يحضر منطق تراكم الدولة وتراكم الشرعية السياسية كتجربة في التدبير العمومي للجماعة البشرية التي اسمها «المغاربة». لأنه علينا أن لا ننسى، أن فكرة الدولة حديثة في بلاد الشرق، عدا المغرب وتركيا وإيران.
وأن سؤال الشرعية السياسية ظل مطروحا بقوة في أغلب بلداننا القطرية العربية على امتداد القرن 20، وأنه لربما مع حركية الشارع العربي (المديني) مع بداية القرن 21، قد بدأنا نلج إلى الشرعية السياسية الديمقراطية التي مرتكزها المجتمع (رجل الشارع) وليس النخبة فقط (بتعدد تلك النخب سابقا، سواء العسكرية أو التجارية أو الدينية). ومن هنا الرؤية إلى المغرب كمثال، بفضل التراكم المتحقق في منظومته المجتمعية، التي التجلي السياسي ملمح فيها فقط، من بين ملامح أخرى مرتبطة بالنخب الدينية والتجارية والفكرية والأمنية (بالمعنى الشامل للأمن، الذي يحدده ذلك المعنى اليوناني لامتلاك الدولة للقوة وتنظيمها تحت سلطة القانون).
بل إن المشتل المغري بالتأمل اليوم، من موقعنا المغاربي، هو ما يحدث عند أشقاءنا الجزائريين، حيث ثمة تحولات في الوعي السياسي الإستراتيجي للفرد الجزائري، يسعى إلى بلورة منطق جديد للدولة، ترجمانا للشرعية السياسية، عبر البوابة الإقتصادية. وقد تكون نقطة عطبه في أمرين: محاولة كبح التحول السياسي للشرعية الديمقراطية بالشارع الجزائري، عبر الرهان فقط على توسيع وتعميم الرخاء الإقتصادي (قرار تخفيض الضرائب كمثال فقط).
ثم السقوط في وهم القوة الإقليمية المستبد عند جزء مركزي من جيل النخبة الحاكمة، خاصة جيل نخبة الإستقلال، عبر لجم أي شكل للتعاون المادي الفعلي مع جيرانها المغاربيين، خاصة المغرب.
من هنا ذلك الإلحاح الأطلنتي (الأمريكي والفرنسي والألماني) على فتح الحدود بين المغرب والجزائر، لتجسير التكامل الشعبي القائم فعليا بين النخب المغربية والجزائرية، بما يحقق الأمن السياسي والإقتصادي للمنطقة المغاربية كلها.
ولعل البوابة الحاسمة لذلك، كما سبق وكتب في دراسة قيمة له نشرت في بداية الثمانيناث الدكتور فتح الله ولعلو من موقعه كباحث مغربي في علم الإقتصاد والإقتصاد السياسي، هي جعل الصحراء نقطة الإرتكاز المغاربية للقفز نحو المستقبل المنشود للتقدم ، والصحراء هنا في معناها الشامل، الممتد من الداخلة ونواكشوط حتى الكفرة بليبيا .
ولعل الخطر الصاعد من بلاد الطوارق بالشمال المالي، يعتبر درسا استراتيجيا للنخب الحاكمة بالجزائر، أن الصحراء ليست خطرا على وحدة المغرب فقط، وعلى مصالحه الحيوية، في شقها الغربي، بل هي أخطر على الثروة الجزائرية وعلى عمقها الإفريقي، في جزئها الممتد صوب دول الساحل، عبر بوابة بلاد الطوارق.
المنظمة المشتركة للجهات الصحراوية
مهم هنا (كمثال) التذكير في هذا الإطار بالقانون الفرنسي الصادر يوم 10 يناير 1957، لتأسيس ما أطلق عليه “المنظمة المشتركة للجهات الصحراوية”، الذي كانت الغاية منه تجميع مشاريع التنمية الإقتصادية للصحراء الكبرى بمنطقة الساحل (موريتانيا/ مالي/ النيجر). وهو القانون الذي تزامن مع اكتشاف البترول والغاز بصحراء الجزائر، ومع قانون إعادة إعداد التراب الجزائري الجديد، الذي أدمج الصحراء تلك، ضمن ما أطلق عليه “الجزائر الكبرى” ، بعد أن كانت الإدارة الإستعمارية الفرنسية، من قبل، تقسم الجزائر إلى ثلاث مقاطعات هي “مقاطعة وهران”/ “مقاطعة الجزائر العاصمة” / “مقاطعة القسنطينية”، تلاه صدور مرسوم فرنسي يوم 4 فبراير 1959، ثم قانون يوم 21 مارس 1959، الخاصين بالتهيئة الإقتصادية للصحراء، في إطار الإنخراط التام مع المصالح الفرنسية ، وهو مشروع لا يزال يداعب الرؤية الإستراتيجية لباريس حتى اليوم.
الرؤية الإستراتيجية
إن الجديد، ضمن الرؤية الإستراتيجية لتطور الأمور هذا، هو أن دول الحلف الأطلنتي، مدركة بشكل حاسم، تأسيسا على منطق دراساتها العلمية التراكمية، أن المعطى الجديد في «بلاد الشرق» هذه، هو تحقق تغيير في دور الفرد فيها. فمسلم وعربي نهاية القرن 19، ليس هو عربي ومسلم بداية القرن 21، أي أن العنصر البشري، المديني، قد غير المعادلة عربيا وإسلاميا، بأن أصبح لرجل الشارع كلمته، وأنه أصبح يطالب بحقه في الخدمات العمومية لنظام المدينة (التعليم، الصحة، القدرة الشرائية، الترفيه الفني والرياضي، البيئة، الأمن). مثلما يفرض كجيل جديد، بالمعنى السياسي وليس العمري، أن يكون سيد قراره، وأن يكون شريكا في صناعة مصيره، أي شريكا في القرار السياسي العمومي.
لهذا السبب، فمنذ سقوط جدار برلين، ومنذ إعادة التحكم في مصادر الطاقة بعد حروب الخليج المتلاحقة، أصبحت الطريق واضحة صوب دعم تحويل مؤسسات دول الشرق إلى مؤسسات متصالحة مع شعوبها، قوية بالشرعية الإنتخابية النزيهة، منظمة بدساتير للدولة المدنية الحديثة، المنتصرة للقيم الكونية.
هل لنا أن نذكر هنا بالتطورات المتراكمة مغربيا (كمثال) منذ سنة 1994، سنة العفو العام السياسي وبداية التجاوب مع دفتر التحملات العالمية الجديدة لما بعد سقوط جدار برلين ؟ أليس يكمن في ذلك منطق للدولة توقعي واستباقي، يميز التجربة المغربية؟ ، أليست قرارات الملك الراحل الحسن الثاني، للإنفتاح السياسي صوب المجتمع (بأحزابه ونقاباته وجمعياته المدنية والحقوقية)، عنوانا لمنطق الدولة ذاك، الذي تواصل وتعزز أكثر منذ 1998 مع تعيين حكومة التناوب بقيادة الزعيم الإشتراكي التاريخي المعارض عبد الرحمان اليوسفي، وتكرر سنة 2011، مع اندلاع ما يوصف ب “الربيع العربي” مع وصول الإسلاميين إلى تدبير الشأن الحكومي، قبل أن تسقطهم اللعبة الديمقراطية السلمية للإنتخابات سنة 2021.
التراكم في الفعل السياسي
بالتالي فإن هذا التراكم في الفعل السياسي والمجتمعي للمغاربة (دولة ونخبا ومجتمع)، هو الذي يجعل الرهان على المغرب كدولة، ضمن منطق التحول في «بلاد الشرق»، يكتسب قوته الحاسمة عند عواصم الحلف الأطلنتي.
إن دعم تحويل مؤسسات دول الشرق إلى مؤسسات متصالحة مع شعوبها العربية الإسلامية، ضمن الرؤية الإستراتيجية للدول الغربية الأطلنتية، هو الضمانة الحاسمة في تحليلها، لاستمرار تحقق أمور مركزية ثلاث، تخدم نظام السوق العالمي. وهي:
– استقرار سياسي وأمني في منطقة استراتيجية بالعالم من قيمة بلاد الشرق من المغرب حتى أفغانستان.
– سوق استهلاكية تنافسية واعدة، لها إمكانيات تحقيق مستوى مرتفع لدخل الفرد السنوي. بذات المستوى المتحقق في كوريا الجنوبية وماليزيا والبرازيل والهند.
– عدالة مستقلة ضامنة لحقوق الرأسمال والتجارة (أليس هذا ما ظل دوما يؤرق صاحب القرار السياسي الغربي ببلداننا العربية منذ القرن 19؟).
إن في هذا كله، إعادة نظر شمولية للسياسة المتوسطية لدول الحلف الأطلسي. وأن الأنظمة السياسية ضمن المجال الجغرافي العربي والإسلامي التي لا تنخرط ضمن منظومة “نظام السوق العالمي” تواجه تحد بقاء وجودها (نموذج سورية، ليبيا، اليمن، السودان).
درس التاريخ
إن درس التاريخ، الذي للأسف، لا توليه نخبنا كثير اهتمام، هو أن منطق تنظيم المصالح لدى الشعوب الغربية ، في الجزء الخاص بنا من العالم، هو منطق مضبوط، فيه تراكم للمعلومات وتحليل لها بعقلانية، في لندن وباريس وواشنطن وبرلين، سواء على عهد الوزير البريطاني «لانزدوون» أو الوزير الفرنسي «دلكاسي» سنة 1904، أو على عهد السيدة هيلاري كلينتون الأمريكية في 2012.
وحين نذكر بذلك، فلأننا لا نريد أن نكون ممن قال فيهم الروائي العربي الراحل، عبد الرحمن منيف: “من يقرأ الماضي بطريقة خاطئة، سوف يرى الحاضر والمستقبل بطريقة خاطئة أيضا.. ومن الغباء أن يدفع الإنسان ثمن الخطأ الواحد مرتين”.
* هامش:
(1) هناك عمل علمي جبار يقوم به في صمت عدد من الباحثين المغاربة في هذا الباب، قليلا ما سلط عليه الضوء بما يستحق من عناية معرفية عمومية.
نذكر منه بالخصوص الجهد العلمي التاريخي المدقق الكبير الذي يقوم به الباحث والمؤرخ المغربي، خالد بن الصغير، بكلية الآداب بالرباط، في ما يرتبط بالأرشيف الإنجليزي، فقد أصدر عددا من الكتب القيمة جدا في هذا الباب تستحق التنويه، تماما مثل العمل العلمي الجبار الذي قام به في ما يرتبط بالأرشيف الإسباني الباحث المغربي الراحل بن عزوز حكيم التطواني.
(2) بعض مقالات المحلل السياسي الأمريكي ديفيد إغناتيوس، التي تعيد نشر بعضها مترجمة إلى العربية يومية “الشرق الأوسط” اللندنية. وبعض مقالات ديفيد بولوك ضمن منشورات معهد واشنطن للدراسات الإستراتيجية.
إقرأ المزيد :