أيمن عبوشي يكتب : تغليف الموتى” وقصة ذوبان الأديان
زرت منذ فترة بلدا متعدد الأعراق والأديان في جنوب شرق آسيا، وأثناء تنقلي من مكان إلى آخر استخدمت “تطبيق المواصلات الذكية” ، صعدت إلى سيارة صغيرة يقودها رجل صيني الملامح.. بدأنا في حديث متقطع، فسألته إن كانت سيارته مصدر رزقه الوحيد، أم أنه عمل إضافي كما هو حال بعض الشبان الذين يعملون في تطبيقات مماثلة لجمع قيمة وقود سيارتهم اليومي؟
أومأ بنعم صامتة في المرآة العلوية، ثم أردف قائلا إنه يعمل في مؤسسة “لتجهيز الجنائز”، شيء يشبه شركات تجهيز الأفراح بمعنى عكسي..! خاصة وأن شركات تجهيز الجنائز هي مفهوم تجاري عصري لعمل “الحانوتي” أو متعهد دفن الموتى، الذي شاع في بعض الدول وعلى نطاق ضيق قبل أن يتولى اختصاصه لاحقا جمعيات خيرية تقوم بتحمل أعباء عملية غسل وتكفين ودفن الميت بمساهمة مادية بسيطة من أهل الفقيد.
شعر السائق براحة عندما استوضحت منه أكثر عن طبيعة عمله، فأخذه الحماس في شرح اختصاص شركته، وقال ” إنها تعمل على خدمة المجتمعات البوذية والهندوسية والمسيحية، ولا تضم المسلمين كان واضحا استبعاده المسلمين من خدمات الشركة، فسألته عن سبب ذلك، وأجاب ” بأن لديهم، أي المسلمين، طريقتهم الخاصة في الدفن.
في حقيقة الأمر، إن الجنازة في الدين الإسلامي، تتطلب مسلمين مؤهلين شرعا للقيام بإجراءاتها، ولا يسمح لغيرهم من الأديان الأخرى المساهمة في ذلك، لكن اللافت ما قاله سائق التطبيق: بأن الشركة تنشط في حقل تجاري يختص في تجهيز الجنازات، وتهيئة الموتى لمراسم الدفن أو الحرق، وهي بطبيعية الحال، لا تقدم خدماتها للمسلمين، بل لا يمكن لأي من شركة تعمل بكادر غير مسلم أن تأخذ على عاتقها عملية التشييع والدفن عند المسلمين، وفي حال عجز ذوو الميت عن دفع تكاليف التشييع والدفن فإن ثمة العديد من الجمعيات التطوعية التي توفر كل ما يلزم لأهل الميت من المعوزين، ناهيك عن أن مراسم الدفن عادة لا تكون مكلفة ولا تستدعي بهرجة أو أية مظاهر احتفالية.
وإذا ما اعتبرنا أنه من الطبيعي أن يؤسس البعض شركات ربحية تقوم بتوفير خدمات الدفن والحرق في المجتمعات غير المسلمة، في تطور منطقي لحرفة الحانوتي، إلا أن هذه الطقوس تظل “دينية” بامتياز، فيأتينا السؤال عن كيفية تحول هذا الاستثمار الضيق إلى مفهوم تجاري واسع في نشاط معقد كان يشترط تأهيلا دينيا، وفي شركة مختلطة، تضم أديانا مختلفة بشكل كلي وليست طوائف متعددة لدين أصيل واحد؟
وحتى أكون أكثر وضوحا، أسأل كيف تمكنت عقلية السوق التي باتت تتحكم بكل شيء، من أن تستأنس طقسا مقدسا في ثلاثة أديان مرة واحدة، وتجعله سلعة تجارية محايدة تحول طقس الدفن بما يتطلبه من تجهيز للميت إلى ما يشبه عملية “تغليف الموتى” في شركة يعمل في أقسامها أناس محايدون ينتمي معظمهم إلى أديان مختلفة لتجعل بالتالي من هذا النشاط الديني مجرد فعل تجاري اعتيادي يخضع لمبدأ الربح والخسارة، وليس طقسا تعبديا يعظم عملية الانتقال من الدنيا إلى الآخرة..؟
لكن من الواضح أن الثقافة الاستهلاكية التي نجحت في مضاعفة الحصة الدنيوية للكثير من المظاهر الدينية وتحويلها إلى سلع سوقية والاستفادة من المناسبات الدينية ومواسم الأعياد مثل فترة الكريسماس في الغرب مثلا وترويج بضائعها تجد صعوبة في علمنة الشعيرة الدينية الإسلامية بحد ذاتها وإعادة إنتاجها بصورة تخدم الأغراض التجارية بشكل مجرد وإنساني خالص.
على أي حال، لا نستطيع أن نضع مسطرة ثابتة لذلك، ولا نستطيع كذلك أن نتخيل شهر رمضان المبارك من دون وجه تجاري يلبي احتياجات الشهر الكريم وعاداته الغذائية التي قد يبالغ فيها آخرون ضمن شراء احتياجات مآدب الإفطار والسحور.
نعم، لا يمكن استبعاد المفهوم التجاري الذي يأتي عادة في سياق هذه الشعائر لدرجة قد يغلب فيها الاستهلاك الغايات الدينية لها، لكن ذلك لا يمس العبادة مثل فعل الصيام بحد ذاته، وتحويله إلى سلعة تجارية، أو إدراجه في جدول الأرباح، وتجريده من قيمته الدينية التي تقوم أساسا على الامتناع عن الأكل والشرب بل وجعله “ماركة تجارية” مسجلة.
يضعنا هذا الخط الفاصل بين هيمنة السوق، والغايات الدينية، أمام حقيقة أن الإسلام دين لا يقبل القسمة على اثنين، ولا يمكن التحايل على نصوصه المقدسة، أو تخفيف جرعاته، أو تمييعه وتحويله إلى دين ثقافي يتصل بممارسات بشرية منقطعة عن أصلها الغيبي؛ تختصر العقيدة إلى جملة من الطقوس والأيقونات واللوحات والمجسمات.
نعم، قد تستطيع شركة تجارية تصنيع سيارة الموتى وبيعها وتوفير متطلبات العزاء، أو الإشراف على إنتاج وتوزيع طرود لمساعدة الفقراء، لكنها لا تستطيع تحويل الصلاة نفسها إلى سلعة تجارية، أو تعميم الممارسات الشرعية على المسلمين وغير المسلمين باعتبار أنها إجراء محايد يستطيع أي كان أن يقوم به في خط إنتاج أو سوبرماركت.
اقرأ المزيد :
بمشاركة ورعاية الرئيس الإندونيسي.. غدا انطلاقُ قمّة الأديان أول قمّةٍ دينيةٍ لمجموعة العشرين