الدكتور أحمد أبو الحسن زرد يكتب : انتخابات السنغال الرئاسية …المقدمات والنتائج
أسفرت الإنتخابات الرئاسية التى شهدتها السنغال فى الرابع والعشرين من مارس الجارى عن فوز “باسيرو ديوماي فاي ” مرشح المعارضة من الجولة الأولى بأغلبية 54,28% من أصوات الناخبين ، فى حين حصل منافسه الرئيسى مرشح الائتلاف الحاكم ، رئيس الوزراء السابق “أمادو باه” على نسبة 35.79 % ، وتوزعت باقى الأصوات (10%) على المرشحين الآخرين (17 مرشحاً من بينهم مرشحة وحيدة هى سيدة الأعمال أنتا بابكر أنغوم) .
انتخابات السنغال كان لها مقدماتها التى أفضت إلى نتائجها ، والتى جاءت فى مجملها ترسيخاً لحزمة من التقاليد الديمقراطية ، وفى مقدمتها “التداول السلمى للسلطة” بعيداً عن مصيدة الإنقلابات العسكرية التى نكبت بها القارة السمراء .
فى المقدمات :
من المفيد الإشارة بادئ ذى بدء ، إلى أن الرئيس المنتهية ولايته “ماكى سال” – والذى شهدت فترة حكمه الأخيرة وتحديداً منذ عام 2021 إضطرابات واعتقالات وتوترات غير مسبوقة – لم يتمكن من تأجيل الإنتخابات ، حيث أعلن المجلس الدستوري السنغالي فى 15 فبراير الماضى إبطال قرار تأجيل الانتخابات الرئاسية من 25 فبراير إلى 15 ديسمبر ، وقضى بعدم دستورية القانون الذي أقرته الجمعية الوطنية في الخامس من فبراير ، وأدى إلى إرجاء الانتخابات لمدة عشرة شهور ، وإبقاء الرئيس ماكي سال في منصبه إلى حين انتخاب خلف له ،كما ألغى المجلس الدستوري مرسوم الرئيس “سال” الذي عدل الجدول الزمني للانتخابات قبل ثلاثة أسابيع فقط من موعدها المقرر.
كما أضطر “سال” لأن يعلن بأن ولايته الثانية التى بدأت فى عام 2019 هى الأخيرة كما ينص الدستور منهياً التكهنات التى راجت بسعيه لخوض الإنتخابات مرة ثالثة ، لكن يحسب للرئيس “سال” أنه صاحب قرار العفو عن “فاى” ، وهو القرار الذى مكن الأخير من خوض السباق الرئاسى فى اللحظات الأخيرة .
فى أسباب فوز”فاى” من الجولة الأولى :
بالعودة إلى نتائج الإنتخابات ، فهذه هي المرة الأولى ، منذ استقلال السنغال عام 1960، التى يفوز فيها معارض بالرئاسة فى انتخابات “تعددية” من الجولة الأولى ، ففى انتخابات مارس 2000 لم يتمكن الرئيس “عبدالله واد” من إزاحة الرئيس “عبده ضيوف” إلا فى الجولة الثانية بعد تحالفه مع صاحب المركز الثالث ، واستطاع الرئيس “ماكى سال” من حسم السباق الرئاسى لصالحه في جولة الإعادة التي جرت في مارس 2012 .
ومن ثم ، من المهم التوقف قليلاً لمعرفة الأسباب التى اسهمت فى تمكن “فاى” من الفوز بأغلبية مريحة من الجولة الأولى ، السبب الأول ما يمكن تسميته بالتصويت الإحتجاجى ضد مرشح الإئتلاف الحاكم المدعوم من الرئيس “سال ” والذى أحدثت سياساته – ومنها سعيه لولاية ثالثة – غضباً كبيراً لدى قطاع الشباب ، ومن ثم وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية تعلقت الآمال بـ “عثمان سونكو” رئيس حزب “الوطنيون من أجل العمل والأخلاق والأخوة” (باستيف) والذى اعتبر نداً قوياً للرئيس “سال” كونه خاض ضده الانتخابات الرئاسية لعام 2019 ، وحاز على نسبة لا بأس بها من الأصوات (16%) ، وحل وقتها فى المركز الثالث ، ومنذ ذلك الحين والرجل يتعرض لمضايقات تهدف إلى تشويه سمعته ، ومن ثم عرقلة ترشحه مرة أخرى ، حيث وجهت له أكثر من تهمة إحداها في فبراير 2021 باغتصاب فتاه ، ثم تهمة الإخلال بالنظام العام فى 3 مارس 2021 ، وأدى ذلك إلى القبض عليه واحتجازه ما أغضب مؤيديه واعتبروها محاولات لتصفيته سياسياً .
منذ ذلك الحين لم تتوقف الإحتجاجات والتوترات من أنصار “سونكو” الذى انتهى به المطاف إلى السجن مع إعاقة ترشحه لمنصب الرئاسة مرة أخرى .
ولم يدر بخلد “سال” أن سونكو سيدفع بـ “فاى” رفيقه لسنوات فى العمل الحكومى (مصلحة الضرائب) ، وفى العمل السياسى (تأسيس حزب باستيف عام 2014) ليكون مرشحاً فى الإنتخابات الأخيرة .
السبب الثانى يتعلق بشخصية “فاى ” (44 عاماً) ، وتمكنه خلال حملته الإنتخابية القصيرة جدا (عشرة أيام ) من استقطاب قطاع كبير من الناخبين من خلال طرح برنامج طموح فيه كثير من الوعود التى تمس المشاعر الوطنية من قبيل الدعوة إلى إنهاء التعامل بعملة الفرنك الأفريقي الموروثة من الاستعمار وإصدار عملة وطنية جديدة ، وتدريس اللغة الإنجليزية في بلد لا تزال اللغة الفرنسية فيه لغة رسمية ، وإعادة النظر في العقود التي أبرمتها السنغال مع دول أخرى في مجال المناجم والتعدين والمحروقات ، إضافة إلى تعهد ” فاي” بوضع ضوابط صارمة للحد من صلاحيات منصب الرئيس بما يضمن التوازن بين السلطات .
وعلى وجه العموم ، فإن انتخابات الرابع والعشرين من مارس 2024 ، ما قبلها ، وما تخللها ، وما تمخض عنها ، كانت ديمقراطية بامتياز ، ومن دلائل ذلك أن العملية الإنتخابية مرت بسلام ، وأن أحداً لم يطعن فى نتائجها ، كما أن الفائز بها “فاى” تلقى التهانى من المنافس الرئيسى “أمادو باه” ، ومن معظم المرشحين الآخرين الذين أعلنوا إعترافهم بنتائج الإنتخابات التى لاقت ارتياحاً من مختلف الطبقات السياسية .
وما كان ذلك ليحدث ، إلا فى بلد يمتلك إرثاً ديمقراطياً عنوانه إحترام “ثقافة التداول السلمى للسلطة” ، صحيح أن السنغال ظلت قرابة أربعة عقود (1960 – 2000) تحت نظام الحزب الواحد (الحزب الإشتراكى السنغالى ) ، لكن الأصح هو أن من تعاقبوا على حكم البلاد منذ الإستقلال إما أنهم تخلوا طواعية عن السلطة ، أو من خلال صناديق الإقتراع ، هكذا فعل أول رئيس للسنغال (ليوبولد سنجور) والذى تخلى طواعية عن الحكم فى عام 1980 بعد أن أمضى عشرين عاماً فى السلطة (1960 – 1980) ، ومن بعده سار على الدرب الرئيس الثانى “عبده ضيوف” الذى قبل بنتائج الإنتخابات التى جاءت بالرئيس الثالث “عبدالله واد” القادم من صفوف المعارضة ، والذى استمرت فترة ولايته من أول أبريل 2000 وحتى 2 أبريل 2012 ، حيث خسر الإنتخابات بعد جولة إعادة جاءت بالرئيس الرابع “ماكى سال” فى 25 مارس 2012 ، والذى تنتهى ولايته فى الثانى من أبريل 2024 .
وما كان لتلك التجربة أن تواصل زخمها ، إلا فى بلد يمتلك مجتمعاً مدنياً حيوياً ، وجاليات سنغالية فى الخارج ، وقفت ودعمت التجربة الديمقراطية بكل مقوماتها وخاصة شغل منصب الرئيس لفترتين متتاليتين فقط .
باختصار الإنتخابات الرئاسية السنغالية الأخيرة ، وما صاحبها بدءا من قرار المجلس الدستورى بانعقادها فى موعدها ، وبدء “فاى” حملته من وراء القضبان ، ثم العفو الرئاسى عنه ودخوله معترك السباق الإنتخابى ، وتهنئة مختلف ألوان الطيف السياسى للمرشح الفائز ، كل هذا أعاد السنغال على الطريق الصحيح للديمقراطية وقواعدها المرعية التى باتت إرثاً ثميناً يصعب التفريط فيه أو السماح لأى من كان للإخلال بثوابته المستقرة .
وأخيرا ، يدخل الرئيس الخامس للسنغال إلى القصر الرئاسى من باب الديمقراطية الواسع ، وفى جعبته الكثير من الآمال والوعود والتطلعات والمشروعات والبرامج ، لكنه بالقطع لا يملك عصا سحرية حين يصطدم بالمعوقات البيروقراطية والإمكانات التى قد تحول دون تحقيق طموحاته.
إقرأ المزيد :
من السجن إلى القصر.. طريق ” فاي “إلى رئاسة السنغال