السفير عبد المحمود عبد الحليم يكتب .. 7 أبريل وليلة السكاكين الطويلة فى كيجالى : ما أكثر العبر
قبل أن يغادر جناحه الرئاسى بمقر استضافته متوجها الى المطار فى رحلة العودة إلى بلاده قال رجال التشريفات التنزانيون ” أنه أجرى محادثة هاتفية ,وتحدث مع بعض أعضاء وفده ” ، كما شوهد وهو يقف أمام مرآة بالبهو لاحكام ربطة عنقه تحرك موكبه بعدها إلى المطار ليصعد لطائرة الفالكون- ٥٠ الرئاسية التى كان طياروها الفرنسيين قد فرغوا من وضع خطة مسار الرحلة واحداثياتها إلى رواندا بعد إنتهاء قمة اقليمية كرست لبحث قضايا السلام والاستقرار فى تلك البقعة الملتهبة، كان الإقلاع جيدا والطائرة ترتفع رويدا فوق أجواء مدينة دار السلام بينما ينفض تحتها سامر مودعى الوفد ، فى كيجالى على الجانب الآخر بدأت تنشط مظاهر استقبال الوفد الرئاسى ويتوافد كبار مسؤوليها لمطارها ويزداد إيقاع الحركة كلما اقترب موعد هبوط الطائرة التى كانت تسمع ترددات صوت قائدها وبرج المراقبة ، كانت الطائرة تحلق بانخفاض فوق محيط القصر الرئاسى متجهة إلى نقطة الهبوط عندما انشقت الارض عن صاروخ فاتك استهدف واسقط طائرة الرئيس الرواندى جوفينال هباريمانا ورصيفه البوروندى سيبريان نتارميرا الذى صحبه فى تلك الرحلة فلقيا حتفهما مع جمع من كبار المسؤولين المرافقين وطاقم الطائرة ، وبمثلما تناثرت أشلاء الضحايا وحطام الطائرة تناثرت على امتداد ذلك القطر المكنى ‘ببلاد الألف تل’ .
أهوال دامية غيرت والى الابد وجه التاريخ فى تلك المنطقة ,فلم تكد تمضى ساعة من زمان اسقاط الطائرة فى السادس من إبريل ١٩٩٤ حتى بدأت أكبر مذابح القرن للابادة ألجماعية بتنفيذ من مليشيات الهوتو المتطرفة و ” الانترهاموى” -شباب الحزب الحاكم ” الحركةالوطنية الجمهورية من أجل الديمقراطية والتنمية ” ، والقوات الخاصة لحكومة الأزمة التى تسلمت الأعباء بعد مصرع الرئيس ضد أقلية التوتسى بل و ضد الهوتو المعتدلين الذين كان رئيس الوزراء ” اغات اولنجيانا “فى صدارة من تمت تصفيته منهم وسط اجواء مسمومة بخطاب كراهية عنيف سخرت له وسائل الإعلام ، واستقطاب عرقى وقتل على الهوية حتى أن الرجل يجبر على قتل زوجته التوتسية والا ناله القتل , ومحظوظ ذاك الذى يدفع ثمن الطلقة فيقتل بها بدلا عن ذبحه.
يقول الجنرال الكندى روميو دالمير قائد بعثة الأمم المتحدة لمساعدة رواندا (يونامير) , والتى كانت تعمل دون نجاح لتنفيذ اتفاقية أروشا لتقاسم السلطة قبل المذابح , فى مذكراته….” ..كنت أثناء تجوالى فى كيجالى أغوص الى ركبتى وسط الجثث المتراكمةبعضها فوق البعض ، ومن حولها الوف المحتضرين الذين يقطع أنينهم نياط القلوب ، وألوف الأطفال الذين تتدفق الدماء من جراحهم ، وهم أيضا فى طريقهم إلى الموت .. كنت أسير خلال القرى التى ليس فيها من علامات الحياة إلا دجاجة أو عنز تسعى أو طائر ،أو كلب يتجول لينهش لحم الموتى ..”.
وقد امتد أوان المذابح لمائة يوم قتل خلالها ثمانمائة ألف رواندى حتى منتصف يوليو ١٩٩٤ عندما تمكنت “الجبهة الوطنية الرواندية” بقيادة الرئيس الحألى بول كاقامى من إكمال سيطرتها على البلاد وتولى الحكم فى تلك البلاد واستعادة سلطة التوتسى فيها ، ليستعيد التاريخ أيضا حركته الدائرية بهروب الآلاف من الهوتو هذه المرة لدول الجوار وخاصة للكونغو الديمقراطية بمتوالية هندسية جديدة من عدم الإستقرار والمطاردات الساخنة لحركات المعارضة المسلحة والمليشيات ، ولتصبح مجاذر رواندا عبرة لمن يريد الاعتبار.
على الجانب الآخر من الاطلنطى فى مدينة نيويورك كانت شمس إبريل قد تمددت بأشعة ساطعة فوق النهر الشرقى عندما بدأ يوم عمل جديد بمبنى الامم المتحدة بمانهاتن ، كانت حصيلة الساعات الاولى من الابادة الرواندية قد وردت من البعثة الأممية هناك إلى إدارة حفظ السلام التى كان يقودها كوفى عنان وعبرها للطابق الثامن والثلاثين لمكتب الأمين العام بطرس غالى الذى تيقن وقتها واشباح الموتى تغزو مكتبه أنه قد دخل بالفعل الى ” عش الدبابير” حسبما أورد فى كتابه ” خمسة أعوام فى بيت من زجاج ” . كانت التقارير تنهمر على مكتبه من قائد قوة حفظ السلام ضعيفة العدة والعتاد والاثر فى رواندا الكندى روميو دالير و غالى يحدق بنظارته السميكة عبر نافذة المبنى لعله يستذكر فشل سابق للامم المتحدة فى الصومال ثم فشل فى التعامل مع تحذيرات بوميض نار وكارثة فى طور التشكل فى رواندا بعث بها دالير من كيجالى قبل بدء حرب الإبادة , وفشل لاحق لمجلس الامن فى التعامل مع الخيارات التى رفعها غالى حيث كان قرار المجلس التخفيض الكبير للبعثة بدلا عن دعمها للاستجابة لما كان يجرى على الأرض من فظائع ، يقول غالى ” إن الدول الكبرى تلجأ دائما لطيب الكلآم ومعسوله عندما تدلهم الخطوب ثم تترك الأمم المتحدة بلا سند او إسناد فذلك تحكمه مصالحها فقط.
فى العشاء الأخير الذى جمعه مع مادلين اولبرايت وهو يجمع أوراقه للرحيل عن ذلك البيت الزجاجى بعد فيتو أمريكى رافض للتجديد له كأمين عام تمنعت الوزيرة الامريكية عن الاجابة على استفساره حول أسباب الموقف الامريكى منه .. فلعلها تركته لتقديره…..لم يخلد غالى إلى النوم طوال تلك الرحلة الطويلة عبر الاطلنطى التى عادت به الى القاهرة ..فأشجان نيويورك مؤرقة حقا… أما كوفى عنان فقد كرس سنوات عمله اللاحقة للافلات مما عدها مراقبون “لعنة التاريخ” وهو القيم على إدارة حفظ السلام إبان تلك المذابح حيث كانت “مسؤولية الحماية ” إحدى المشاريع التى سعى لتكريسها عندما خلف غالى كامين عام .
اذا كان الجنرال دالير قد تحسر على ما أسماه بلامبالاة مجلس الأمن وانعدام الأهمية الاستراتيجية لرواندا كمبرر محتمل لذلك فإن عنان قد أقر بدوره بضعف بل فشل دور الأمم المتحدة فى رواندا ،وإنه كان يمكنها التصدى أو الحد من حرب الإبادة هناك، ووضح كذلك أن العديد من التقارير المحذرة لم ترفع للامين العام ربما لمعرفته سلفا بما كان يردده غالى من أن البعثات الدولية تلجأ عادة للاثارة فى تقاريرها .
يقول عنان ” إن من بين أسباب الموقف الامريكى من بطرس غالى تردده فى الموافقة على عمليات قصف حلف الأطلسى للبوسنة.. هذا بخلاف اعتبارات أخرى من بينها حاجة الإدارة الأمريكية وقتها لرفع شعبيتها ،واعتبارات شرق أوسطية أخرى…وبينما يرى صوماليون أن غالى لعب دورا سالبا فى تعقيد مشكلة الصومال كفشل آخر للأمم المتحدة بسبب معاملته لعايديد وكأن بينهما ثأرا فإن المناخ السائد فى المنظمة الدولية بحسب متابعين لم يكن متحمسا لتجربة أخرى فى رواندا وفى البال سحل جندى أمريكى قبل عدة اشهر منها فى شوارع مقديشو .
خلال الأسبوع الماضي انشغلت الاوساط الدبلوماسية والاعلامية بمشروع قرار راتب ظل يقدم للجمعية العامة للأمم بشأن “مسؤولية الحماية” منذ عام ٢٠٠٩ فى أعقاب اعتمادها فى قمة رؤساء الدول والحكومات عام٢٠٠٥ بنيويورك ، كانت التجارب السابقة ذات الصلة ماثلة خلال تلك الحوارات ، ووضح رغم القراءة الكلية لنتائج التصويت القدر الكبير من عدم الثقة التى لاتزال تحيط بالمشروع ليس فقط بسبب فشل ورعونة الحالات الماضية مثل تجربة التدخل فى ليبيا على سبيل المثال التى انحرفت عن مسار حماية المدنيين مستهدفة تغيير النظام ومثيرة لمخاوف من بوسعهم قبول هدية حصان طروادة الخشبى بل لأن مناقشات المشروع صادفت أيضا ماتشهده غزة من فظائع تحت الإحتلال لا تعدها القوى الغربية الكبرى الداعمة لمسؤولية الحماية مستوجبة لها.
المجموعة الافريقية التى كان قادتها قد ادرجوا مسؤولية الحماية ضمن النظام الأساسي للاتحاد الأفريقى تباينت مواقفها التصويتية بين مؤيد ورافض وممتنع عن التصويت أو غائب عن المشاركة ، إلى حين إشعار آخر وزمن قد يطول يبدو أن تعامل المجتمع الدولى مع “مسؤولية الحماية “سيظل انتقائيا تلونه المصالح السياسية مما يصعب أن لم يجعل من المستحيل تحقيق شروط توبة الامم المتحدة السياسية لجهة الاقلاع عن ذنب الانتقائية وعدم العودة لانحرافات التطبيق وأن تظاهرت بالندم على مامضى.
فواقع الأمر عند الناقدين والرافضين يؤكد أن “مسؤولية الحماية ” نبيذ قديم فى أقنية جديدة ، و مفهوم يعيد نفسه على إمتداد الحقب السياسية المختلفة لشرعنة التدخلات العسكرية فى شئون الدول الأخرى تحت ستار حماية الانسان وصون حقوقه ، ومحاولات إضفاء صفة اخلاقية وسياسية على تلك التدخلات من خلال مسميات متجددة عبر عنها فى السابق مفهوم “الحرب العادلة” عند القديس اوغسطين(453- 430م ) وحق ” التدخل الانسانى ” الذى كان ينادى به كوشنير ، يبقى هاما كمدخلات ضرورية فى مقابل ذلك الالتزام بتشجيع الحلول السلمية للمنازعات وعدم ربط الحماية بالتدخل العسكرى بالضرورة واحترام ثوابت ميثاق الامم المتحدة بما في ذلك الحالات المتوافق عليها بشأن دور مجلس الأمن ، ينبغى مراعاة كل ذلك فى الجهود الجارية لاصلاح وتعزيز دور المنظمة الدولية ،
فلا تزال أدبيات الأمم المتحدة تحمل تصنيفات بالية عفا عليها الزمن كما فى المادة ٣٨ من النظام الأساسي الحالى لمحكمة العدل الدولية حول ادواتها لحل المنازعات حيث تشير فى الفقرة (ج) لما اسمته بمبادىء القانون العامة “التى أقرتها الامم المتمدنة ” ‘civilized nations ‘
وبهذا فهى تعضد مفاهيم ذات ظلال استعمارية بشأن دول متمدنة واخرى همجية ، وهو المفهوم الذى كان يستغل لغزو الشعوب والتدخل فى شئونها وإخضاعها.
عند وصوله الى مطار نيويورك فى أوائل خمسينات القرن الماضى لتسلم أعباء موقعه خلفا للنرويجى تريغفى لى كان السكرتير العام الأسبق للأمم المتحدة داج همرشولد يجيب على أسئلة الصحفيين حول كيفية نطق اسمه ، وجدها فرصة لالقاء الضوء على رؤيته لادارة المنظمة فأجابهم ” إنها تحتاج إلى ‘ همر’ وهو ‘المطرقة ‘ و’ شيلد’ ‘الدرع ‘ .
ربما يأتى مستقبلا من يملأ أرض الأمم المتحدة عدلا بعد أن ملئت جورا كما توخى همرشولد , والذى قضى نحبه ايضا فى حادث تحطم طائرة في سماوات افريقيا المكفهرة…..مثل هباريمانا.
إقرأ المزيد :
راح ضحيتها مليون قتيل .. العالم يحيي ذكري الإبادة الجماعية في رواندا