القيسوني: يكتب.. وادي الرشراش أول محمية في تاريخ مصر
كان الأمـیر كمال الدیـن حسین (نجل السلطان حسین كامل الذى تـولـى حـكم مـصر سـنة 1914 حـتى وفـاتـه 1917، مولع بالصيد وبالصحراء والرحلات الاستكشافية ويعود الفضل له في أنه رسـم عددا من خـرائـط الصحـاري المصرية الشرقـیة والغربية، وله العدید من الكتب والمطبوعات، أنشأ أو محـمیة طبيعية فـى تـاریـخ مـصر والملقبة بمحمیة «وادى الرشراش».
هذا الوادي أو محمية وادي الرشراش تقع جـنوب شـرق مدینة الـقاهرة بنحو 70 كیلومتر بالقرب من مدينة الصف التابعة لمحافظة الجيزة، في تلك المنطقة حفر بئراً وبني حجـرة واحـدة جعلها استراحة له، وزرع فيها نـصف فـدان بشجـر الـسنط الجبلى وبعض أشجار الـفاكـهة، وبهدف الإبقاء عـلى حـیوان الـماعـز الجبلى الذى كـان منتشـرا بـالـمنطقة وقـتها والحيوانات الأخـرى.
عيّن الأمير للمحـمیة حـراسـة مكونة مـن سـتة أفـراد مـن الجنسية الألبانية، عـاشـوا جميعهم وأسرهم في مدیـنة الـصف حـتى وفاتهم وكـان رئيسهم یلقب بیعقوب أبو القمصان، وأدار المحـمیة بـحب واهتمام بـالـغ، ولـم یـسمح لأحـد بـالـصید فـیها إلا هـو بـالـطبع وابـن عـمه الأمـیر یـوسـف كـمال وبـعض رجـال السـلك الدبلوماسى.
محمية وادي الرشراش
ومـعظم مـا قـام بـصیده مـحنط ومـوجـود بـقاعـة الـصید بـمتحف محـمد عـلى بـالـمنیل «الـروضـة»، وفى عـام 1932 وبـعد وفـاة الأمـیر كـمال قـام بـزیـارة المحـمیة السـیر راسـل بـاشـا حـكمدار بـولـیس مـصر، وأوصـى عـند الـملك فـؤاد الأول بـأن تـظل هذه المحمیة عـلى حـالها تـعمل لحمایـة مـا تـبقى مـن الحیوانـات الـنادرة بـالصحـراء الشـرقـیة، لذا فقد أصدر الـملك فـؤاد الأول مـرسـوما ملكيا بـأن تـظل المحـمیة كـما هـى وتـكون تـحت إشـراف سـلاح الحـدود.
وأضيف إلـیها فى عهـدى الـملكين فـؤاد وفـاروق بـعض أبـراج الحـمام وإسطبل للخیل وللجـمال وأقـفاص للنعام والـغزلان ومـطبخ واستراحات إضافية، و«نـصرة» أو مـبنى تم تشييده بـخامـات الـمنطقة الـطبیعیة مـموه یسـتخدم لغرض مـراقـبة الـحیوانـات بـشكل مسـتتر أو لصیدها.
هذه المحمیة الـمفروض أنـها تـحت إشـراف حـدیـقة حـیوانـات الـجیزة، لـكن حـالـها یـؤكـد أنـها أصـبحت فى طـى النسـیان، وأكـثر مـا یـلفت الـنظر فى هذه المحـمیة هـو الـجبل الصخرى الجنوبى الـمطل عـليها والـمرتـفع رأسـیا بحوالى مـائـتين وعشـرين مـترا، وعـلیه عـلم مـصر الـقدیـم الهلال والنـجوم الثلاث، والذى تـم تـركـیبه فى عهـد الـملك فـاروق أوائـل الأربـعینیات، وهـو مـصنوع مـن الـمعدن ویتحـرك عـلى رولـمان بـلى لتحـدیـد اتجاهات الـریـح، ومـا زال یـعمل بـكفاءة عـجیبة حـتى الـیوم.
محمية وادي الرشراش
لكي تصل الي هذه المحـمیة یُفضل التحـرك بـعربـات الـدفـع الرباعى إلى مدیـنة حـلوان حـتى مـدیـنة الـصف الـتابـعة لـمحافـظة الـجیزة، رغـم أنـها عـلى الـجانـب الشرقى لـلنیل، وهـى رحـلة طـولـها خـمسون كـیلومـترا، ثـم تخترق بـعد ذلـك مـدیـنة الـصف شـرقـا وسـط الـمزارع والتجـمعات الـسكانـیة الـمتناثـرة هـنا وهـناك لـتصل إلى الأطـراف الـغربـیة للصحـراء الشـرقـیة، وعبر المـدقـات والطـرق والعرة، التي تـضم مـرتـفعات، ومهابط لـمنخفضات حـادة، سيتم السير فـوق الصـخور الملساء ومخـرات سـیول والرمـال النـاعـمة متجهـین إلى المحـمیة شـرق جـنوب مـدیـنة الـصف بحوالى عشـرين كـیلومـترا.
محمية وادي الرشراش
ورغم صعوبة الوصول الي هذه المحمية لكن خـلال هذه الـرحـلة، یسـتمتع الزائر بمشاهدة تـشكیلات رائـعة الجـمال مـن النـباتـات، وتـشكیلات صخـریـة وحـیوانـات وطـیور وحشـرات وأشـجار مـعمرة، فـأول مـظاهـر الحیاة فى هذه الـمساحات الـشاسعة اللانهائية مـن الـرمـال والـجبال هو أشـجار الأكـاسـیا الصحراوية أو «أكـاسـیا رادیـانـا» الـمعمرة التى تـتعدى مـن الـعمر الـمائـتى عـام لـتقف بـشموخ وسـط هذه الـكثبان الـرمـلیة وتتحـدى كـل مـنطق وتـصمد وتـعیش عـلى أقـل نسـبة مـن الـرطـوبـة والـمیاه الـمتوفـرة فى أعـماق الأرض، وعـلى زهـور وقـرون بـذور هذه الأشـجار والتى تـسمى عـلفًا تـتغذى عـلیها مـعظم حـیوانـات الـمنطقة.
وهناك أيضا شجيرات الـغردق التى تـطرح ثـمارا حـمراء صغيرة زاهية الـلون سـكریـة الـمذاق ومحببة عـند الـغزلان والـتیاتـل والـماعز الجبلى ثـم نـبات اللصف الذى یـتدلى مـن الـشقوق الصخریـة مـعتمدًا عـلى أشـواكـه، ویـشكل مـنظرا أخـضر جـمیلا وسـط هذه الـصخور، وثمرته علىى شـكل وفى حجـم الأصـبع، وطعمها مـثل ثـمرة الـكبر المسـتخدمـة بـكثافـة فـى مـأكـولات حـوض البحـر الأبـیض الـمتوسـط.
.
إن كنت من سعداء الحـظ ستشاهد أحـد كـائـنات هذه الـمنطقة، مـثل ثـعلب الـرمـال الـذى لا يظهر فى الـعادة خـلال النهار فـقط بل من الـمساء حـتى الفجـر، ثـم یـدخـل جحـره، حـیث الأمـان والهروب مـن حـرارة الـشمس الـقاسـیة.
كـما تنتشـر الـرسـومـات الـبدائـیة لإنـسان الـعصر الحجرى عـلى الصخور الضخمة المنتشرة عـلى جـانـبى الـمدق وهـى رسـومـات تـعدت آلاف الـسنین مـن الـعمر، ويظهر فـیها الجـمل والـتیتل الجبلى والإنـسان.
كـما نـشاهـد مـداخـل مـغارات منتشـرة هـنا وهـناك وكـل حـین ونلتقى بـرعـاة قـبائـل مـعازة المنتشـریـن بـالصحـراء حـتى الـسویـس..
رعـاة مـن الـنساء أو الـرجـال بـین الـقصیر ووادى الـنیل، وشـمالا الشـرقـیة، وجـنوبـا یـرعـون الـغنم والخـرفـان والجـمال وتنتهى الـرحـلة عـند مبانى محـمیة وادى الـرشـراش، وهـى المحـمیة الأولـى مـن الـعمر، والمحـمیات الـطبیعیة فى تـاریـخ مـصر والتى تـعدت الـمائـة عـام الـمحصورة فى وادى ضـیق بـین جـبال یـبلغ ارتـفاعـها الـمائـتى مـتر فـأكـثر، وبالمحمية عـدة مبانٍ، أكبرها استراحة الـملك، ومـظلة مـخصصة لـلفرق الموسيقية، وسـاحـة مسـطحة مـن الحجـر المسـتوى لنشـر الـمقاعـد والـمناضـد عـلیها.
والـملاحـظ فى مـبنى استراحة الـملك أن الـمهندس قـام بـبناء بـروز عـلى ارتفاع مـتر مـن الأرض، لـه مـیل أمـلس لـلخارج حـول الـمبنى بـالـكامـل، وذلـك لـمنع تسـلق ودخـول الحشـرات والـزواحـف للاستراحة، كـما تـم تـصنیع سـلالـم خشـبیة متحـركـة عـلى عجـل، یـتم تـركـیبها عـلى مـدخـل الاستراحة، والـمرتـفع حوالى الـمتر والربـع مـن سـطح الأرض، وذلـك عـند تـواجـد الـملك فـقط بالاستراحة.
وعـند مـغادرة المحـمیة یـتم فـصل هذه السـلالـم وإیـداعـها بالـمخازن، والاستراحة مـكونـة مـن قـاعـة كـبیرة تسـتخدم لـلنوم والـراحـة، وغـرفـة سـلاحلیك لـلأسـلحة، ودورة مياه مـلحقة بـها شـرفـة مـطلة عـلى بـانـورامـا المحـمیة بـالـكامـل.
لـلأسـف، آثـار الـزمـن والإهـمال والـتجاهـل بـدأت تظهـر عـلى هـذا الـموقـع الجـمیل الذى صـمد أكـثر مـن مـائـة. المفاجأة أن الـمدارس الأجنبیة بـالقاهرة والجیزة تـنظم رحـلات لهذه المحـمیة.. فالبیئة عـامة وحـب الـطبیعة واجـب أن تـغرس فـى نـفوس النشء مـنذ نـعومـة أظـافرهم لـضمان الـحفاظ عـلى هذه الـكنوز الـطبیعیة الـرائـعة والتى وهبها الله لـمصر.
إقرأ ايضا:
محمود عبدالمنعم القيسوني يكتب : « الجلف الكبير » الصورة طبق الأصل لتضاريس المريخ
محمود عبدالمنعم القيسوني يكتب : مائة عام علي اكتشاف جبل العوينات
« القيسوني » يواصل الكشف عن كنوز مصر المجهولة .. (الحلقة الثانية )
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.