«مكة وفيها جبال النور.. طالّة على البيت المعمور

دخلنا باب السلام.. غمر قلوبنا السلام بعفو رب غفور»

كلمات تحمل الشوق والحنين إلى زيارة بيت الله الحرام، ذاك الشوق المفعم بالتطهير والتوبة، وعفو رب غفور، وأيام مبهجات، يطوف فيها حمام الحما، حول الحجيج، مناجيا الله مثل عباده.. «رب اغفر وارحم وتقبل مناسكنا»

ولأن «الحج دعوة ربانية» لا تضاهيها أى دعوة لأى مناسبة أخرى، يظل حلم كل مسلم ومسلمة، وهناك فى بلادنا البعيدة، هو الفرحة الكبرى التى تقام لها الاحتفالات قبل وأثناء وبعد أدائها، والتي يشارك فيها الجميع، من الأهل والأقارب ومن القرى المجاورة، الكل جاء للتبرك، والدعاء بأن يكون العام القادم ممن يحتفى بهم فى الموسم العظيم..

«الحج فرحة»

هكذا يقولون فى بلادنا، عن تلك الفرحة التي تختلف باختلاف المكان والزمان. أما عن المكان فإن فرحة أبناء القرى والأرياف فى الوجهين البحرى والصعيد بالحج لا تقارن بفرحة أهل المدن والحضر، ففى المدن لا تتخطى حدود فرحتهم جدران البناية التى يعيشون فيها، لكن أهل الريف والقرى تتخطى فرحتهم الحدود، ويشاركهم تلك الفرحة أبناء جلدتهم المقيمين فى محافظات أخرى، وأما عن الزمان، فإن فرحة أهل المدن لا تزيد عن ساعات تسبق أو تعقب رحلتى السفر والعودة، أما هناك عند أهل الريف، قد تستمر احتفالاتهم بالحجاج لأسبوعين أو ما يزيد.

تأثير الميديا على احتفالات الحجيج:

قد يعتقد البعض أن التقدم التكنولوجى والتطور الهائل فى وسائل الاعلام وتكنولوجيا الاتصال، أثرت على شكل الاحتفالات بوداع واستقبال الحجاج، لكن الواقع يؤكد أن هذه الثورة التكنولوجية ساعدت فى تطور شكل الاحتفالات وبخاصة فى الآرياف، فأصبح البث المباشر والتصوير الاحترافى لهذه الاحتفالات أمر أساسى ينقل للمقيمين بعيدًا تفاصيل ما يحدث بالبث المباشر، وهو وسيلة سهلة للإعلام بأن شخصا ما، سيسافر للحج، كما انه أصبح مساعدًا فى الدعوة للمشاركة فى هذه الاحتفالات.

لكن المؤكد أن شكل هذه الاحتفالات قد تغير ولم يعد كما كان عليه فى السابق فى بعض البلدان وبخاصة فى الصعيد وبعض قرى الوجه البحرى، غير أن هناك قرى وبلدان لا تزال تحافظ على هذه التقاليد والعادات الاجتماعية وتزيد عليها، مثل قرى المطاعنة التابعة لمركز إسنا جنوب الأقصر، هذه القرى التى تأثر بعضها بالتطور الحادث فتخلت عن بعض عاداتها القديمة، لكن البعض الآخر لا يزال محتفضًا ومصرًا على التمسك بعاداته وثقافاته الاجتماعية، فلا تزال الاغانى والمواويل والكف الصعيدى والمزمار البلدى والربابة حاضرة فى الأعراس، وفى الاحتفالات الدينية لا تزال الحضرة والإنشاد الدينى وقراءة القرأن ومجالس الذكر حاضرة ومسيطرة، في مجموعة القرى التى عززت مكانه كبار المقرئين وقدمتهم للعالم كالشيخ عبد الباسط عبد الصمد، الذى بدأ مسيرته منها، وفى الإنشاد الدينى كانت بدايات الشيخ أحمد برين، وعبد النبى الرنان، وجمال الإسناوى، ومحمد العجوز، ولم يقتصر الأمر عند هؤلاء، بل إن هذه القرى لا تزال هى الحاضنة لمجالس الذكر والحضرة وبشكل مستمر حتى إن لم تكن هناك مناسبات دينية.

ومع بدء موسم سفر الحجاج تشهد هذه القرى العديد من الاحتفالات تيمنًا بسفرهم لآداء الفريضة وكان آخر هذه الاحتفالات، الحفل الذي نظمه الحج عبد الله لبيب أبوعورة، رئيس قطاع الأقصر بوزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، فى جزيرة الكروم، التابعة لقرية كيمان المطاعنة، بمحافظة الأقصر، بمناسبة سفر أخيه الأصغر الحاج عبد الرحيم أبوعورة للحج هذا العام، هذا الاحتفال الذى حضره أكثر من ثلاثة آلاف شخص توافدوا من محافظات أسوان والأقصر وقنا وأسيوط، وأحيا الحفل أحد مشاهير قراء القران فى محافظة أسوان هو الشيخ الشاب حسن يوسف النجار، كما ألقى الخطبة الرئيسية فضيلة الشيخ عبد الغنى العقالى الواعظ بمساجد أسيوط والذى تمت دعوته بشكل شخصى لإحياء هذه المناسبة.

عودة لشيخ العرب «همام الهواري»

«المصرى اليوم» تواصلت مع عبد الله لبيب أبوعورة، منظم هذا الحفل، الذى أكد أن إقامة الاحتفالات بسفر وعودة الحجاج بالقرية وقرى المطاعنة بشكل عام، ليس مستحدثًا بل إن له جذور تاريخية تعود لأكثر من ثلاثمائة عام، وبالتحديد عندما خرج أهالى المطاعنة لوداع عشرات المتطوعين من أبنائهم الذين تطوعوا بطلب من شيخ العرب همام ابن يوسف الهوارى، ضمن إخوانهم من أبناء محافظة قنا لتأمين قوافل الحجاج التى تعرضت للإعتداء والنهب والسلب من قِبل قطاع الطرق فى طريق الحج الواصل من قفط وقوص الى موانىء البحر الأحمر فى القصير وعيذاب، فشكلوا سرايا وفرقًا تكفلت بحماية وتأمين الحجاج فى رحلتى سفرهم وعودتهم، وقد استمر هذا العمل لسنوات، وفى كل عام كان أهل هذه البلاد يخرجون فى احتفالات عظيمة يودعون «الموهوب» والموهوبون هم الجماعة الذين يعملون فى حراسة الحجاج، وقد أطلق عليهم هذا اللقب لأن الأسر والعائلات كانت كل عام تهب أحد أبناءها أو بعضهم للقيام بشرف خدمة الحجاج وحمايتهم، هؤلاء الموهوبين كانوا يمتطون الخيول ويلبسون الثياب البيضاء لكن الحجاج من هذه القرى كانوا يركبون الجمال التى يتم تزينها بالأقمشة الملونة أما النساء الذاهبات للحج فكانت تركب الجمال ولكن داخل هودج.

وأضاف عبد الله أبوعورة أنه منذ ذلك التاريخ أصبح الاحتفال بتوديع الحجاج طقسا من طقوس هذه القرى، تحافظ على عاداته وتقاليده وموروثاته الاجتماعية، أضف الى ماسبق أن هناك واقعة تاريخية دارت أحداثها فى هذه القرى، جعلت الاجيال تتمسك بالموروث القديم وترفض التخلى عنه، وهى لجوء شيخ العرب همام، عظيم بلاد الصعيد وحاكمها لأصدقائه من عربان المطاعنة، عقب هزيمة جيشه من المماليك فى معركة أسيوط، ومحاولتهم تصفيته وقتله، فخرج قاصدًا بلاد النوبة لكنه سرعان ما عاد واستقر ببلاد المطاعنة، وأستعان بـ«الموهوبين» لتأمين الحدود الشمالية لبلاد المطاعنة، ووضع بعض الموهبين على جبل بمنطقة الجبلين الأثرية، سمى فيما بعد بجيل الشيخ موسى الأنصارى لمراقبة قدوم الجيش المملوكى إذا جاء للبلاد من خلال الوادى أو عن طريق نهر النيل، وبقى الأمير همام وبعض من أفراد عائلته وبعض من خدمه بهذه القرية قرابة 7 أشهر الى أن توفاه الله.

وعقب وفاة همام واصل مشايخ عربان المطاعنة دورهم فى المصالحات بين القبائل وظلوا متمسكين بالعادات والتقاليد، لدرجة أن نساء هذه القرى لاتزال تردد الأغانى والمواويل و«العَديِد» الذى كان يردد فى الجنائز من قبل، فأغنية « يا قمع السكر فى الندى بليته.. واللى طلبته يا حبايب ريته» هى موروث ثقافى قديم من فترة الموهوبين وهمام، كما أن العَدودة التى رددتها الجدات فى جنازة ومآتم شيخ العرب همام تتردد حتى الآن، بين الأمهات والجدات وهى التى يقول مطلعها «يا برج عالى كنا نتضللوا تحتيه.. لما وقع فر الحمام منيه» وكذلك «يا سبع يا ضرغام تخاف العدا منيه.. من بعدك لا فى بحر ولا جو المطاعنة طعام نشتهيه» ويحفظه «القوالين» للمواويل والمربعات.

وقال أبوعورة: كل ما سبق جعل الاستعداد للاحتفالات بسفر الحجاج فى بلادنا له مذاق خاص، وميزانية خاصة وخطة عمل شاقة تستمر لآيام، فعلى سبيل المثال عندما تحدد يوم سفر أخى عبد الرحيم، سافرت الى مركز كوم أمبو بمحافظة أسوان لمقابلة ابن عمى، العمدة جابر أبوعورة، عمدة قرية الرغامة غرب لكى نتشاور فى ترتيبات حفل توديع أخى، ونحدد قائمة المدعويين من البلدان الأخرى، وبالفعل اتفقنا على كافة الخطوط العريضة والترتيبات الخاصة بالحفل الرئيسى، ومنها ضرورة أن يحيى الحفل قارىء قرآن له من حلاوة وعزوبة الصوت نصيب وافر، أما أخى عبد الرحيم فقد سافر الى أسيوط لكى يتفق مع الواعظ الشيخ عبد الغنى العقالى لإلقاء خطبة الحفلة وهو شخصية مشهورة وبخاصة على مواقع التواصل الاجتماعى، وله الآلاف من المعجبين ومقاطع فيديوهات خطبه يشاهدها الملايين، وبالفعل تم الاتفاق معه وتحديد الموعد المتفق عليه.

وأضاف: أخذنا يومين لتجهيز المكان الذى ستقام فيه الحفلة والمكان المخصص لإقامة العشاء وسفرة كبار الضيوف وغيرها من الترتيبات ووجهنا دعوات مطبوعة وعبر وسائل التواصل الاجتماعى بالواتساب لنحو 2500 مدعو وبحمد الله تجاوز عدد الحضور حاجز الثلاثة آلاف شخص.

مظاهر الاحتفال

أما حمدى محمود سلمان المحامى، وأحد أبناء القرية، فقال إن مظاهر الاحتفال بسفر الحجاج فى مصر بصفة عامة قديمة وتعود الى عهد سيدنا عمر بن الخطاب عندما كسا الكعبة بالقباطى أى القماش الذى كان يحاك فى بلاد الأقباط، ومع بداية الدولة الفاطمية اهتم الحكام الفاطميين بإرسال كسوة الكعبة كل عام من مصر، وكانت الكسوة بيضاء اللون، وكذلك فى الدولة المملوكية وعهد السلطان الظاهر بيبرس، أصبحت الكسوة ترسل من مصر، حيث كان المماليك يرون أن هذا شرف يجب ألَّا ينازعهم فيه أحد حتى ولو وصل الأمر إلى القتال، واستمرت مصر فى نيل شرف كسوة الكعبة بعد سقوط دولة المماليك وخضوعها للدولة العثمانية، فقد اهتم السلطان سليم الأول بتصنيع كسوة الكعبة وزركشتها وكذلك كسوة الحجرة النبوية، وكسوة مقام إبراهيم الخليل، وفى عهد السلطان سليمان القانونى ظلت كسوة الكعبة ترسل بانتظام من مصر بصورة سنوية يحملها أمير الحج معه فى قافلة الحج المصرى، لكن فى عهد محمد على باشا توقفت مصر عن إرسال الكسوة بعد الصدام الذى حدث بين أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب فى الأراضى الحجازية وقافلة الحج المصرية فى عام 1222هـ الموافق عام 1807م، ولكن أعادت مصر إرسال الكسوة فى العام 1228هـ، وكانت الكسوة وتوديع الحجاج تخرج من مصر فى احتفالية كبرى تسمى « بالمحمل»، لتؤكد أن الاحتفالات بالحج موروث مصرى قديم تعاقبت عليه الحكومات فأصبح جزءا وموروثا اجتماعيا مصريا.

وفى قريتنا تبدأ الاحتفالات عقب قيام الحاج بعقد نية آداء الحج، فترى جميع تصرفاته تتم فى سكينة وتسامح وخشوع، وعقب أعلان نتيجة القرعة بمقر مركز ومدينة إسنا، يتهافت الناس الى منزل الذين حالفهم نصيبهم بالفوز بهذه القرعة، فتذهب الناس إليهم يباركون لهم حاملين معهم الهدايا والتى كانت فى السابق عبارة عن زجاجات الشربات وأقماع السكر وغيرها من الاحتياجات الضرورية التى تقدم كمشروب للمهنئين.

واضاف حمدى سالمان أنه قبل السفر يجلس الحاج فى ديوان العائلة أو فى مضيفته أو «مندرته» الخاصة يستقبل فيها أهله وأحبابه من مختلف المحافظات، الذين جاءوا للسلام عليه قبل توجهه الى الأراضى المقدسة مرتديًا الملابس البيضاء، فيما يحرص الأهل والجيران على التواجد لاستقبال الضيوف القادمين وقد يقومون بإعداد وجبات الطعام التى يذهبون بها الى منزل الحاج لإكرام الضيوف، وقد تستمر هذه الاحتفالات لمدة أسبوع كامل لكن هناك ثلاثة أيام وهى التى تسبق موعد السفر تسمي « أيام البريز» يتولى الحاج كافة أعمال الضيافة، وتختتم بالليلة الاحتفالية الكبرى، وهى عشية يوم السفر.

ويضيف حمدى سلمان أنه ومع اقتراب يوم السفر يتم وضع اعلام بيضاء على المنزل وفى بعض المحافظات يتم تزيين حوائطه بلمبات مضيئة، وتفتح الأبواب للزوار من ابناء القرية والقرى الأخرى القادمين لتهنئة الحاج وتسليمه أوراقا تحمل أسماءً لإلقائها قرب الكعبة وذلك اعتقادا منهم بأن هذا «الأتر» سوف يزيد فرصتهم فى الحج العام التالى.

وفى قريتنا، يخرج الحاج فى ليلة السفر وسط أقاربه يمر على المنازل ويطلب من اهلها الصفح عنه ان كان قد اساء إلى أحدهم، ويقوم الأقارب والأصدقاء بتنظيم «زفة الوداع» او«زفة الحاج» التى تماثل «زفة العريس» يوم زفافهن ومع النساء المسافرات، تتردد أغنية شهيرة مطلعها «حاجة يا حاجة يا أم الشال قطيفة، رايحة فين يا حاجة.. رايحة أزور النبي محمد والكعبة الشريفة»

ويقول فى السابق كان الحاج يحمل على ظهور الجمال ليزف خارج القرية تمهيدًا لوصوله الى وسيلة السفر الأساسية سواء أكانت السفن من موانئ القصير أو سفاجا أو السويس، وفى فترة سفر الحاج، يقوم أهل الحاج بتزيين حوائط منزله بالرسوم المتوارثة كالجمل والسفينة وأضيف لها السيارة والطائرة، وصور للتلبية فى اثناء الحج، ورسوم للكعبة والصفا والمروة والمسجد النبوى، وجبل عرفات ومنى، وحمامتى غار ثور، وعبارة «حج مبرور وذنب مغفور»، وبعض الآيات القرآنية. إضافة إلى رسم «خمسة وخميسة» بدماء الأضحية، والخرزة الزرقاء والعين لمنع الحسد.

وعند عودة الحاج بملابسه البيضاء، تخرج الأسرة لاستقباله فى سيارات ترفرف عليها الأعلام البيضاء ويكون استقباله بالزغاريد والمزمار البلدى، وعندما يصل إلى قريته تكون هناك زفة أخرى يكون فيها الطبل والمزمار والرقص بالخيل والتحطيب، ويقبل الأقارب والأصدقاء للتهنئة بأداء الفريضة المقدسة وسلامة الوصول، وعادة، ما يقدم الحاج لهم هدايا كالمسابح والطواقى والعطور ومياه زمزم.

واختتم حمدى سلمان حديثة قائلًا: هذا موروث ورثناه عن ابنائنا وأجدادنا ونحن لا نستطيع التخلى عنه مهما كلفنا الأمر، لكن فى الفترة الأخيرة ومع ارتفاع تكلفة الحياة وارتفاع تكلفة الحج والأسعار، كل حاج أو حاجة ينظم احتفالاته وفقًا لظروفه الاقتصادية، وقد تكتفى السيدات الذاهبات للحج بليلة «بريز» واحدة تضاء فى الشموع فى صينية وتجتمع حولها نساء القرية،  وكل واحدة تحاول تلمس السيدة المتوجهة للحج لتنال منها البركة ولما لا وهى التى أسعدها الله وأختارها لكى تتلمس بأيديها الكعبة والحجر الأسود وقبر سيدنا رسول الله.

إ

إقرأ ايضا:-

“طفنيس قرية القرآن” .. مشاعر ألهبت أهالي الصعيد

رواية البوسطي هل ظلمت مصلحة البريد ومثقفي الصعيد- وثيقة تاريخية

نقيب الصحفيين المستقلين الأسبق يترشح لعضوية نقابة المحامين

الشيخ إسماعيل الهواري المفتري عليه 

قرية طفنيس تحتفي بـ 750 حافظًا لكتاب الله بجوائز تتجاوز الربع مليون جنيه