“فورين بوليسي” : دول قارة أفريقيا بعد عقود من الاستقلال ما تزال على قوائم الأفقر في العالم
أكدت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية أن الأمر الذي يدعو للدهشة هو أن دول قارة أفريقيا، وبعد عقود من الاستقلال، ما تزال على قوائم أفقر دول العالم، رغم ما تمتلكه بعضها من ثروات طبيعية، مشيرة إلى أنه على الرغم من الإهمال الكبير الذي لحق بأفريقيا، إلا أن تحقيق النهضة الاقتصادية في القارة يشكل واحدا من أعظم التحديات في هذا القرن، خاصة وأن القارة على مدى العقود المقبلة ستكون المكان الذي يحدث فيه معظم النمو السكاني العالمي في عصر الشيخوخة السريعة في العديد من المجتمعات الغنية.
وأشارت المجلة في تقرير لها إلى أهمية تعزيز قدرة القارة الأفريقية على بناء طبقات متوسطة قوية، حيث إن البديل هو تحول أفريقيا لتصبح مصدرا أكبر للهجرة الدولية والذعر المصاحب لها في الغرب. علاوة على ذلك، فإن تحقيق أهداف المناخ العالمي يتطلب إيجاد وسيلة لإنتاج قدر أكبر من الطاقة صديقة البيئة لشعوب أفريقيا، حيث في أجزاء كثيرة من القارة، يستهلك الأفراد كهرباء أقل بكثير سنويا في المتوسط من استهلاك ثلاجة أمريكية نموذجية.
التأثيرات الأجنبية
ولفتت “فورين بوليسي” إلى أن جزءا كبيرا من الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها أفريقيا يمكن إرجاعها إلى التأثيرات الأجنبية المدمرة التي تعود إلى تاريخ عميق ومأساوي للغاية من الاستغلال والقهر معظمه على أيدي الأوروبيين بحق الشعوب الأفريقية المستعبدة، حيث تم استعباد 12 مليونا من أبناء القارة أو نحو ذلك لتعزيز خلق الثروة الغربية.
وواصلت المجلة أن هناك تيارا عميقا آخر من المأساة يمر عبر استيلاء أوروبا الصريح على ثروات أفريقيا في أواخر القرن التاسع عشر وما بعد هذه الفترة، حيث كان تركيز أوروبا مُنصبا على استخراج الموارد الطبيعية مثل المطاط والكاكاو والمعادن الثمينة، إلى جانب إجبار الأفارقة على العمل في ظروف أشبه بالعبودية حتى بعد الحرب العالمية الثانية مع استخدام أعداد كبيرة منهم للقتال في حروب أوروبا.
وترى المجلة الأمريكية أنه منذ استقلال القارة، ساهمت عوامل خارجية أخرى في فشل أفريقيا في الانطلاق اقتصاديا. ففي حين تمكنت الصين من الصعود على مدى العقود الأربعة الماضية، وحققت تقدما صناعيا على نطاق واسع، فقد عانت أفريقيا من انقسامات عميقة إلى 54 دولة معظمها صغيرة وغير ساحلية في كثير من الأحيان، وهو إرث الاستعمار الذي دام لفترات زمنية طويلة.
الطريق نحو الرخاء والإزدهار
وشددت المجلة على أنه يتعين على البلدان الأفريقية أن تعالج مشاكلها الداخلية إذا كانت راغبة في إيجاد الطريق نحو قدر أعظم من الرخاء والازدهار، مشيرة في هذا الصدد إلى ثلاثة كتب لباحثين يقدمون من خلالها نظرة ثاقبة للطبيعة الفريدة للقضايا الداخلية الحالية لأفريقيا، والطرق التي قد تتمكن بها القارة من تحويل واقعها الاقتصادي نحو الأفضل.
ويأتي الكتاب الأول للباحث وانج فينج تحت عنوان “عصر الوفرة في الصين: الأصول، والصعود، والعواقب”. ويرى وانج، عالم الاجتماع بجامعة كاليفورنيا، أن نجاح الصين الهائل في تحقيق الرخاء بين عامي 1979 و2019 يرجع إلى درجة عالية من الاستقرار السياسي والتماسك في برنامجها للتنمية الاقتصادية، مع التزام قادة الصين بخريطة الطريق التي وضعها الإصلاحي العالمي الصيني المخضرم “دنج شياو بينج”.
الخروج من الفقر
وتؤكد المجلة الأمريكية أن الخروج من الفقر هو مشروع أجيال وليس مهمة قائد واحد، حتى لو كان قائدا لفترة طويلة , لذا، فإن أفريقيا بعكس الصين كانت تفتقر إلى هذا النوع من الاتساق عبر الأجيال، حيث عانت بلدان القارة إما من حكم أنظمة استبدادية لفترات طويلة أعاقت وضع القواعد المستقرة وبناء المؤسسات، أو أنها عانت من عدم الاستقرار الذي عادة ما يكون في شكل انقلابات يعقبها حكم عسكري.
أما الكتاب الثاني، فيأتي تحت عنوان “التراخي نحو المدينة الفاضلة”، للاقتصادي ج. برادفورد ديلونج من جامعة كاليفورنيا. وعلى الرغم من أن ديلونج لا يركز بشكل مكثف على أفريقيا في كتابه، إلا أن الاتجاهات التي تناولها تظهر حاليا بشكل واضح في المنطقة الأقل استقرارا في أفريقيا، وهي: الحزام العريض من الدول الذي يمتد تحت الصحراء الكبرى والمعروف باسم الساحل، والذي شهد ثمانية انقلابات ناجحة منذ عام 2020.
وحمل الكتاب الثالث عنوان “التفاوت العالمي: نهج جديد في التعامل مع عصر العولمة”، للخبير الاقتصادي البارز برانكو ميلانوفيتش من جامعة نيويورك. وحاول ميلانوفيتش تفسير لغز فشل أفريقيا في الانطلاق إلى المزيد من التقدم، حيث أشار إلى أنه بعد الأداء الجيد في الستينيات والسبعينيات، شهدت القارة انتكاسة اقتصادية هائلة في التسعينيات، وهو العقد الذي توقف فيه النمو فعليا في العديد من البلدان الأفريقية، حيث بحلول عام 2000، انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في القارة بشكل كارثي 20% أقل من مستواه في عام 1980. وبعد 13 عاما، ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في أفريقيا إلى 1.9 مرة أعلى من مستواه المسجل في عام 1970.
ويرى ميلانوفيتش أن المشاكل في أفريقيا أكثر تعقيدا مما توحي به هذه الأرقام، حيث شهدت البلدان الأفريقية في كثير من الأحيان طفرات في النمو أعقبها انخفاضات سريعة. ويبدو أن عدم القدرة على الحفاظ على معدلات نمو حتى وإن كانت متواضعة لفترات طويلة هي المشكلة الرئيسية لدول القارة. كما أن تقلبات النمو هناك مدفوعة بالصراعات السياسية والحروب الأهلية واتجاهات الأسعار التي تؤثر على الموارد الطبيعية والتي يعتمد جزء كبير من إنتاج وصادرات أفريقيا عليها.
الفساد في أفريقيا
وأشارت “فورين بوليسي” إلى أن الكثيرين يلقون باللائمة أيضا على الفساد في أفريقيا كسبب رئيسي يحول دون تحقيق النهضة الاقتصادية المرجوة، دون أن يأخذوا في الاعتبار أن الصين والعديد من البلدان الأخرى الناجحة اقتصاديا تعاني هي الأخرى من قدر كبير من الفساد. ففي الواقع، قامت بكين منذ فترة طويلة بإعدام أو سجن المسؤولين المدانين بتهمة الإثراء غير المشروع. ولكن الاختلاف هنا أنه في حين ينخرط مسؤولون في الصين في الكسب غير المشروع، فإن المشاريع التي يشرفون عليها تستمر ويتم إنجازها في نهاية المطاف ولا تتوقف.
ونوهت المجلة إلى أن ما ساعد الصين –بخلاف أفريقيا- على التقدم بقوة في فترة زمنية قصيرة نسبيا هو استثمارها المستدام فيما يسميه بعض الاقتصاديين بنيتها التحتية البشرية، حيث وفقا للباحث وانج فينج في كتابه “عصر الوفرة في الصين: الأصول، والصعود، والعواقب”، فقد حققت الصين قبل انتهاء الفترة الماوية (فترة حكم ماو تسي تونج) في عام 1976، تقدما هائلا في تحسين الصحة العامة لسكانها؛ ما أدى إلى انخفاض كبير في حصيلة الأمراض المعدية وغيرها من أسباب الوفاة التي يمكن الوقاية منها إلى حد كبير، مثل الوفيات عند الولادة، ووفيات الرضع، وهو ما أدى بدوره إلى زيادة إنتاجية السكان.
وشهد العصر الذي أعقب وفاة ماو تسي تونج كذلك تحسينات إضافية مستمرة في الرعاية الصحية، وهو ما تؤكده جميع أنواع الإحصاءات، بدءا بمتوسط العمر – الذي يبلغ حاليا 78.99 سنة – والذي يشبه المتوسط في الولايات المتحدة الأكثر ثراء بكثير، في حين ماتزال أفريقيا تعاني من الأمراض الاستوائية المتوطنة مثل الملاريا، ولديها أسوأ المؤشرات الصحية مقارنة بأي قارة. لذا، فإن السياسات البسيطة، مثل تحسين وتوسيع شبكات المياه البلدية وشبكات المياه الريفية، على سبيل المثال، من الممكن أن تنقذ الأرواح على نطاق واسع وتطيل العمر وبالتالي تحسين الإنتاجية.
ويولي كتاب وانج أيضا المزيد من الاهتمام لجانب آخر من مشروع الأجيال الذي بدأ في عهد الرئيس الصيني دنج شياو بينج (1978-1992) لتحويل الصين، وهو: التعليم، حيث ارتفع معدل الالتحاق بالمدارس في جميع المستويات فوق المرحلة الابتدائية بشكل كبير. ومن خلال هذا التوسع الهائل في نظامها التعليمي، قامت الصين بتحسين جودة قوتها العاملة بشكل كبير ومستمر.
الأمية لا تزال منتشرة
ولفتت “فورين بوليسي” إلى أنه في المقابل، فإن الأمية لا تزال منتشرة على نطاق واسع في بعض البلدان الأفريقية، فيما تحصل الفتيات في العديد من البلدان هناك على تعليم أقل بكثير من الأولاد.
وأكدت المجلة أنه ليس أمام القارة خيار سوى القيام باستثمارات أكبر بكثير في البنية التحتية البشرية إذا كان لها أن تغير ظروفها الاقتصادية في العقود المقبلة، خاصة وأن شعبها يتمتع بموهبة طبيعية مثل أي شعب آخر في أي مكان آخر، ولكن المشاركة في الاقتصاد العالمي بصورة أكثر فعالية تعتمد على إنتاج فكري أكبر بكثير مما هو قائم حاليا في القارة، مع أهمية إيجاد حلول أفريقية للمشاكل الأفريقية، الأمر الذي لن يتأتى إلا من خلال التعليم.
إقرأ المزيد :
هشام عز العرب : أفريقيا القارة الأكثر تأثراً بتغير المناخ ونحن بحاجة إلى الاستثمارات وليس القروض