أخبار عاجلةالرأي

عالم الآثار المصري الشهير الدكتور حسين عبد البصير يكتب : حركة الأفروسينتريك

 

ما هي حركة “الأفروسينتريك”؟

الأفروسينتريك هي حركة عنصرية بغيضة توجد بشكل كبير في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية التي ينتشر بها بعض من الجماعات ذات الأصول الإفريقية ، وكرد فعل للتفوق الحضاري الغربي الحديث، ونتيجة لما عانى منه الأفارقة من استعباد وعنصرية واضطهاد في الغرب، خصوصًا في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ونظرًا لعظمة الحضارة المصرية القديمة في مواجهة حضارة الغرب الحديث، وكنوع من إثبات الذات والتفوق الحضاري، ادعى أصحاب تلك الحركة أن أصل الحضارة المصرية إفريقي فقط، وأن الأفارقة هم من بنوا الحضارة المصرية القديمة، وأن أجدادنا المصريين القدماء لا علاقة لهم بها، ولم يكن لهم أي دور في بناء الحضارة المصرية القديمة العريقة. ويدعى أولئك أيضًا أن موطن المصريين القدماء الأصلي هو شبه الجزيرة العربية، وأننا تركناها إلى مصر، وهاجمنا الأفارقة، واحتللنا مصر، بلدهم، وطردناهم منها، وأننا- المصريون- دخلاء على الأرض وعلى الحضارة، كما يدعون جهلًا وعنصرية وكذبًا.

ويدعو أولئك المدعون إلى العودة إلى الجذور، أي العودة إلى وطنهم الأصلي، أي مصر، أرضنا الخالدة المباركة، وكي يوهموا العالم بصحة ادعائهم، يغيرون من شكل التماثيل والمناظر المصرية القديمة، ويظهرون وجوه المصريين القدماء بلون أسود للإيحاء بأن أصلهم إفريقي بكل كذب واحتيال، وينشرون تلك الصور ذات الوجوه السوداء في كل كتاباتهم ومعارضهم بالخارج.

ظهرت حركة الأفروسينتريك منذ سنوات وتزداد انتشارًا ومدعومة من جامعات ومؤسسات أمريكية ومعادية ، وعلينا أن نرد وندافع عن حقوقنا الواضحة، وأن نفضح ادعاءاتهم الكاذبة ضد مصر العظيمة وحضارتها الخالدة، وتوضيح الحقائق التاريخية للعالم كله؛ وذلك لإيقاف نشاط حركة الأفروسينتريك المعادية ضد الحضارة المصرية. ومنذ فترة، تمت إذاعة عمل فني ذي نزعة معادية ومشوهة للحضارة المصرية أظهر الملكة كليوباترا ببشرة سمراء على غير حقيقتها، ومن المعروف أن كليوباترا لم تكن سمراء، ولن تكون هذه هي المرة الأولى، ولن يكون هذا العمل هو الأخير، أو الدعوة الأخيرة، إلى سرقة حضارتنا المصرية العظيمة. فكفانا صمتًا على تزوير وسرقة وتزييف الحضارة المصرية القديمة وأشهر ملوكها وملكاتها، وعلينا أن نستعد للدفاع عن حضارتنا المصرية القديمة وكل ما يتعلق بها؛ حتى لا نفاجأ في يوم من الأيام، ليس ببعيد، بسرقة حضارتنا المصرية العظيمة من بين أيدينا دون أن ندري.

الفراعنة السود .. هل كان الفراعنة سودًا؟ 

هل حكم مصر القديمة فراعنة سود؟

ما حقيقة تصوير المصريين القدماء ببشرة سمراء؟

في البداية، أؤكد أن مصر جزء أصيل وفاعل من القارة الأفريقية، ولم تكن هناك أية عنصرية أو أي استعلاء عرقي أو حضاري من مصر القديمة على جيرانها أو على الحضارات التي تفاعلت معها. 

من المعروف أن مصر تقع في الجزء الشمالي الشرقي من أفريقيا، ويوجد عدد كبير من الحضارات الأفريقية المتميزة جنوب الصحراء. وكان لمصر القديمة امتداداتها الجغرافية والتاريخية والحضارية في أفريقيا عبر وادي النيل في النوبة العليا، والتي تعرف أثريًا لدينا باسم “كوش”، والتي كانت تمتد إلى الجندل السادس في السودان الحالية، على عكس النوبة السفلى التي كانت تقع داخل الحدود المصرية بين أسوان ووادي حلفا. 

منذ أقدم العصور، كان لمصر القديمة وجود وتفاعل كبيرين في العمق الأفريقي، ووصل هذا الوجود والتفاعل إلى القمة في عصر الدولة الحديثة، أو عصر الإمبراطورية، حين وصلت الحدود المصرية إلى الجندل الرابع في أرض كوش، وكان ملوك الدولة الحديثة يعينون حاكمًا مصريًا لإدارة أرض “كوش” أو النوبة العليا، وكان يحمل لقب “سَا نِسو إِن كَاش” أو “ابن الملك في كوش”.

ومن قبل ذلك بكثير، كانت النوبة العليا مصرية، أو متمصرة، ومتشبعة بالثقافة المصرية وعلى علم وثيق بنظم الإدارة المصرية وبكل مفردات الحضارة المصرية، وقام المصريون القدماء بذلك من أجل تأمين التجارة الواردة لمصر من الجنوب، والتي كانت مصر في أشد الحاجة إليها، ولعبت الدبلوماسية والتجارة والقوة العسكرية أدوارها بين مصر القديمة وعمقها الأفريقي حسب طبيعة كل عصر من عصور التاريخ المصري القديم. 

صُور بعض المصريين القدماء ببشرة سمراء في بعض الأعمال الفنية؛ وذلك لأسباب دينية كانت مرتبطة بتصوير الرب أوزير سيد العالم الآخر وعالم الظلام وعالم الموتى؛ وكان يتم ذلك التصوير لضرورات عقائدية ، ولم يكن المصريون القدماء ذوي بشرة سمراء كما ظهروا في بعض من تلك الأعمال الفنية من نحت ونقش وتصوير، والتي بنى البعض نظريات خاطئة تقول إن المصريين القدماء كانوا من ذوي البشرة السوداء.  

لقد شارك الكوشيون في العمل داخل مصر في عدد من الوظائف، ودُفنوا داخل أرض مصر,و بعد نهاية عصر الدولة الحديثة، مرت مصر بعصر الانتقال الثالث، وكان عصرًا في قمة الضعف على كل المستويات.

وفي نهاية ذلك العصر، هبط الكوشيون أو أهل النوبة العليا، الذين كانوا متمصرين؛ لإنقاذ مصر وحضارتها الخالدة من التردي الذي حدث لها بعد عصرها الذهبي العظيم ، وقام الملك الكوشي بيعنخي، أو بيا، بغزو مصر وتوحيد البلاد تحت سلطة ملك كوشي واحد ، وسيطر هو وخلفاؤه، والذين كان أهمهم الملك طاهرقا، على مصر لفترة زمنية ليست بالكبيرة.  

كان أولئك الملوك الكوشيون يعرفون اللغة المصرية القديمة، وكانوا يتعبدون إلى المعبودات المصرية القديمة مثل الإله آمون ، وبعد وفاتهم، دفنوا أنفسهم في أهرامات صغيرة الحجم؛ تقليدًا لأسلافهم الملوك المصريين الذين أُعجبوا بهم وقلدوهم في بناء أهرامات بعيدة عن أهرامات الجيزة في الحجم والزمن، لكنها قريبة منها في الفلسفة والشكل والمغزى.

لقد حكم الملوك الكوشيون مصر لفترة زمنية قصيرة تقدر بحوالي ثمانية وثمانين عامًا، وخرجوا من مصر تحت هجمات الآشوريين الذين أنهوا حكم الكوشيين، والذين عادوا إلى بلادهم في عاصمتهم الجنوبية في نباتا ، وتأسست في مصر أسرة وطنية هي الأسرة السادسة والعشرين الصاوية في سايس، أو صا الحجر في وسط الدلتا المصرية. 

هذه هي القصة الحقيقية باختصار شديد وبإجابات مبسطة عن الأسئلة، عاشت مصر الأرض التي رحبت، وما تزال، بالجميع، والتي احتضت، وما تزال، كل الثقافات والعرقيات والملل والنحل. 

 لماذا ظهر المصريون القدماء بلون أسود؟

كان قدماء المصريين أكثر الحضارات تقدمًا في عصرهم ، وكانوا قادرين على تنفيذ أعمال فنية جميلة، بما في ذلك التماثيل والمناظر سواء في النقوش البارزة أو الغائرة أو التصوير،  وهناك البعض من تماثيلهم أو مناظرهم يظهروهم في بعض من آثارهم بلون أسود.. فهل كان المصريون القدماء من ذوي البشرة السوداء؟ 

كانت التماثيل المصرية القديمة تُصنع من الأحجار الفاتحة مثل الجرانيت الوردي الأحمر، أو الحجر الجيري، وكان يتم صنع العديد من التماثيل القديمة أيضًا من الخشب أو مواد أخرى يمكن طلاؤها أو تزيينها بالألوان.

وكان بعض التماثيل المصرية القديمة يُصنع من الجرانيت الأسود والبازلت، وهما من الأحجار ذات اللون الداكن، بالإضافة إلى ذلك، كان يتم طلاء أحيانًا البعض من تلك التماثيل أو الأعمال الفنية بنوع من الصبغة يسمى “الأزرق المصري”، والذي كان يعطيها مظهرًا يميل اللون الأسود مع مرور الوقت بعد تلاشي تلك الصبغة. 

كان اللون الأسود ذا رمزية كبيرة في الديانة المصرية القديمة في مصر القديمة ، لقد اعتقد المصريون القدماء اعتقادًا راسخًا أن اللون الأسود كان يرمز إلى التربة السوداء الخصبة لبلدهم، وكانوا يطلقون على بلدهم، أي مصر، اسم “كيمت”، السوداء أو السمراء؛ بسبب خصوبة أرض مصر التي كان يخصبها نهر النيل الخالد بغرينه الفائق الخصوبة، أي أن كيمت تعني الأرض السوداء الخصبة ، واعتقدوا أيضًا أن اللون الأسود يمثل نهر النيل نفسه ، وكان النيل ضروريًا للحياة المصرية القديمة؛ إذ كان هو شريان الحياة، وكان يوفر لهم المياه للري والنقل، ولقد كان سيد الآلهة، الإله الأشهر، الرب أوزيريس أيضًا هو رب الاخضرار والنماء والزارعة والبعث والقادر على تخصيب وإنبات الأرض المصري؛ لذا صُور باللون الأسود الذي يلد على ذلك ، وكان اللون الأسود يرمز إلى الظلام البدائي الذي كان موجودًا قبل خلق العالم، أو في العالم الآخر، عالم الظلام، أو العالم السفلي أو العالم الآخر الخاص برب الظلام والعالم الآخر، أوزيريس، أو كيمي”، أي الأسود، الذي كان سيد عالم الظلام وعالم الآخر، ورب الموتى، وسيد محاكمة الموتى في العالم الآخر؛ لذا فقد اعتقد المصريون القدماء أن اللون الأسود هو لون الموت والآخرة، لون ربهم أوزيريس، سيد عالم الموتى، والذي عاد من عالم الظلام؛ كي ينجب ابنه وخليفته وولي عهده على عرش مصر، الإله حورس، ابن الربة إيزيس، ثم عاد أوزيريس سيدًا على العالم الآخر مرة أخرى.

وصُور بعض المصريين القدماء في تماثيلهم وآثارهم باللون الأسود تشبهًا بربهم الأكبر الإله أوزيريس. واعتقد المصريون القدماء أنه من خلال صنع تماثيلهم بلون أسود أنهم سوف يكونون قادرين على حماية المتوفى من الأرواح الشريرة في العالم الآخر، ومهما كان السبب من وراء ذلك التصوير الفني الديني باللون الأسود، فقد أبدع المصريون القدماء بعضًا من أجمل التماثيل وأكثرها إثارة للاهتمام في العالم كله منذ وقت العثور عليها إلى الآن. 

إذًا، لقد ظهر المصريون القدماء في بعض من تماثيلهم أو مناظرهم في بعض آثارهم بلون أسود بغرض فني صرف ذي دلالات دينية عديدة، كما سبق الذكر، ولم يكونوا في الأصل أصحاب بشرة سوداء.

أرشح الملكة كاتيمالا 

 

إن هناك مَن يريد تصوير عملي وثائقي درامي عن ملكة من أفريقيا، فإنني أرشح له بمنتهى القوة الملكة كاتيمالا.

من هي الملكة كاتيمالا؟  

عثرنا على لوحة للملكة كاتيمالا في منطقة سمنة في النوبة، وتعد تلك اللوحة دليلاً نصيًا مهمًا على أصول دولة حكام نباتا الكوشيين الذين كانوا موجودين إلى جنوب من مصر في السودان الشقيق. وهي لوحة مهمة بها نص ومنظر يقدمان الملكة كاتيمالا أو كاريمالا (وتُكتب أحيانًا باسم كايمالو) في منطقة سمنة. وتوجد لوحة الملكة كاتيمالا حاليًا في متحف الخرطوم في السودان.  

كانت اللوحة موجودة إلى الغرب من الباب الأوسط على واجهة معبد يرجع إلى عصر الدولة الحديثة في سمنة. وتمت إزالة المنظر الأصلي واستبداله بمنظر آخر لملكة نحيفة القوام، مع مرافقتها، تقدم القرابين للإلهة المصرية إيزيس.

وربما تعد الملكة الأولى منذ زمن الملكة حتشبسوت التي قدمت نفسها كملكة لمصر العليا والسفلى. وتنتمي تلك الملكة الغامضة إلى الحضارة المروية المتأخرة في التاريخ النوبي ، ومن خلال الأسلوب الفني للوحة والنص الهيروغليفي المصري المتأخر المكتوبة عليها، فإن النص المكتوب على اللوحة يسبق اللغة التي تم استخدامها قبل غزو الملك الكوشي بيعنخي، أو بيا، لمصر في بداية عصر الأسرة الخامسة والعشرين الكوشية ، ويرجع النص إلى ما قبل الكتابة المروية. 

يعني اسم كاتيمالا أو “كَادِي-مِل(يِه)” “المرأة الجميلة” في اللغة المروية القديمة ، وربما كانت كاتيمالا جدة لملوك الأسرة الخامس والعشرين الكوشيين، ويناسب ظهورها البارز في تلك اللوحة الطبيعة الأمومية للمجتمع النوبي والظاهرة في النصوص الخاصة بفترة حكام نباتا والمؤسسة المروية المعروفة باسم “كَان كِده” أو “كَان دِسه” أي “الملكة الحاكمة”. 

يسجل النص نتيجة أحداث عنيفة حرض عليها أحد الأعداء، ويدعى “مكاراش”، بعد فترة هادئة حدثت في عهد أسلاف تلك الملكة، وربما كانوا الملوك المرقمين من الألف إلى الدال، والذين دُفنوا في مقابر الكورو الملكية المبكرة في السودان ، وربما كان الملك غير المسمى، والذي تصارع معه العدو “مكاراش”، زوجًا للملكة كاتيمالا، وتشير شجرة العائلة الخاصة بالملك الكوشي أسبلتا (حكم من 600 ق.م.، وتوفى عام 580 ق.م.) إلى ست أجيال من الملكات السابقات، وانتهت بمن حملت لقبي “أخت الملك وسيدة كوش”، والتي من المحتمل أن تكون هي الملكة كاتيمالا، والتي حكمت في حدود العام 850 ق.م. 

عاصرت الحاكمة كاتيمالا، أغلب الظن، الفترة من عصر الأسرة الحادية والعشرين إلى عصر الأسرة الثانية والعشرين في مصر القديمة. وعلى الرغم من أن التأريخ الدقيق للنص، وبالتالي كاتيمالا، غير مؤكد، فإنه يمكن افتراض أنه يعود إلى عصر الأسرة الحادية والعشرين أو عصر الثانية والعشرين.

وتعد تلك الفترة هي العصر المظلم في التاريخ النوبي، والذي لا يُعرف عنه أي شيء تقريبًا ، ويثبت ذلك النص استمرار وجود بعض أشكال السلطة. 

حملت كاتيمالا لقبي ابنة الملك والزوجة الملكية العظيمة، وتظهر الملكة وهي ترتدي التاج الريش المزدوج، ورداءً طويلاً، وتمسك بشارات الحكم في يديها. وفي اللوحة، ظهرت كقائدة سياسية فذة وشخصية عسكرية من طراز رفيع. وسيطرت على النوبة السفلى على الأقل في أعقاب أنشطة عسكرية فاشلة بها ، ويعد النقش الموجود على لوحة الملكة غير مقروء، ولكنه مثال جيد على الكتابة في النوبة لبيان سياسي ديني يطبق عليه العديد من تقاليد النصوص المكتوبة.

جاءت الملكة كاتيمالا من أفريقيا؛ لتعبر عن أفريقيا بمنتهى القوة في فترة مهمة من تاريخ مصر والنوبة، وتوضح مدى انتشار حضارة مصر القديمة وثقافتها عبر أرض وادي النيل الخالدة .. تلك ملكة من أفريقيا العظيمة. .وأرشحها بشدة؛ كي يتم عمل فيلم وثائقي دارمي عنها؛ يخلد سيرتها، ويسرد التعايش والتواصل في أرض وحضارة وادي النيل البازغة.. مصر هي التي علمت العالم.

* حسين عبد البصير : مدير متحف الآثار-مكتبة الإسكندرية

Email: [email protected]

اقرأ المزيد 

« مجرد تخاريف » .. رد قوي من عالم الآثار المصري الشهير زاهي حواس علي مزاعم « الأفروسنتريك » 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »