آسيا العتروس تكتب : الرأي العام الإسرائيلي .. الانتصار لمنطق الحرب وإراقة الدم في غزة
المفاضلة بين نتنياهو وغالانت كالمفاضلة بين الكوليرا والطاعون ..كثيرة هي الأسباب التي تدفع للاعتقاد أن دعوة الرئيس الكولومبي للإسرائيليين للتحرك و رفض ما يجري في غزة من جرائم ستبقى أشبه بصرخة في واد دون أدنى صدى يذكر في الكيان الاسرائيلي شأنها في ذلك شأن كل الصرخات و النداءات و الدراسات التي ما أنفك المؤرخ والناشط و الباحث الإسرائيلي ايلان بابيه يرددها في الأوساط الجامعية و السياسية و غيرها .
الرئيس الكولومبي نشر صورا توثق لجرائم الجيش الاسرائيلي في منشور عبر منصة “إكس”و قال مخاطبا الإسرائيليين “اليوم يجب على الشعب الإسرائيلي أن يكون في طليعة المدافعين عن السلام العالمي والحق في الحياة… أطلب منكم أن تفعلوا كل ما يلزم لوقف الإبادة الجماعية للأطفال في غزة”.
يبدو أن كولومبيا التي قطعت العلاقات مع الكيان الإسرائيلي منذ الثالث من مايو و كانت من الدول التي بادرت بمثل هذا الموقف تعول على موقف من الداخل الاسرائيلي لإنهاء المجازر الحاصلة , و قناعتنا أنه سيكون من السذاجة التعويل على الرأي العام الإسرائيلي بل علينا ان نسأل جديا هل هناك رأي عام إسرائيلي مناهض أو معارض لما يجري في غزة من جرائم إبادة بل الأرجح أن الرأي العام الإسرائيلي لا يخرج عن الماكينة التي يديرها جيش الإحتلال و عن أهدافه و توجهاته .
لقد دخلت حرب الإبادة المفتوحة على غزة شهرها التاسع على التوالي و سجلت في محطتها المتوحشة انتفاضة جامعات و نخب وشعوب و أمم و عواصم عالمية كانت تبدو من أشد المدافعين عن كيان الاحتلال و عن السردية الإسرائيلية التي وجدت لها في الآلة الدعائية المتنفذة سلاحا إضافيا إلى جانب مختلف أنواع الاسلحة المدمرة لجيش الإحتلال .
نقول هذا الكلام و نحن نحاول فهم و قراءة تركيبة الرأي العام الإسرائيلي إزاء هذه الحرب و هو الذي ظل وفيا لمنطق الحرب داعما مختلف أنواع العمليات العسكرية التي يقودها كيان الإحتلال على غزة و أهلها .
و لعلنا لا نبالغ إذا اعتبرنا أن التحركات الاحتجاجية أو المظاهرات التي شهدها الشارع الإسرائيلي في المدة الاخيرة تمحورت حول مسألة واحدة و هي عودة الأسرى بكل الطرق المتاحة ، و إذا كان من الطبيعي أن تتجه انظار عائلات الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى المقاومة إلى استعادة مواطنيهم و ضمان عودتهم أحياء عبر جسور المفاوضات و الوساطات المفتوحة مع القاهرة أو الدوحة فإن ما ليس طبيعيا بالمرة ألا يهتز الرأي العام الإسرائيلي و لا يتحرك قليلا أو كثيرا إزاء كل المجازر التي يرتكبها جيش الإحتلال في حق المدنيين في غزة و ألا يصر عما يسمى باليسار المعتدل في الكيان الإسرائيلي ما يعبر عن رفض أو انتقاد أو أدنى احتجاج على ما يحدث من إبادة موثقة و من تجويع و من استهداف للمستشفيات و المدارس و البيوت على رؤوس أصحابها .
بل سيكون مهما في هذه المرحلة و بعد القطيعة الحاصلة بين نتنياهو وغالانت التأكيد على أنه سيكون من السذاجة الحديث عن مفاضلة بين الإثنين أو بين معسكر نتنياهو ومعسكر غالانت الذي كان يدعو طوال انضمامه لمجلس الحرب إلى مواصلة الحرب على غزة دون هوادة و هو ما يعني بكل ساطة أن أي مفاضلة بين الطرفين هي أشبه بالمفاضلة بين الكوليرا و الطاعون وهما في نهاية المطاف وجهان لعملة واحدة و اهدافهما واحدة و هي تدمير غزة على بكرة أبيها و نقل الحرب لاحقاً إلى الضفة و تكرار السيناريو في حق أهلها بتحريك قطعان المستوطنين المسلحين و المدعومين من جيش الإحتلال لتوسيع العدوان ليشمل عرب ال48.
الحقيقة أن مختلف استطلاعات الرأي تؤكد أن المجتمع الإسرائيلي في مجمله مؤيد للحرب بكل أدواتها و أهدافها و أن الإعلام العبري يسير في هذا الاتجاه و أن ما تنشره صحيفة”هارتس” بين الحين و الآخر من مقالات و تحقيقات تنتقد حكومة نتنياهو يبقى إستثناء و الاستثناء يحفظ و لا يقاس عليه تماما كما هو الحال بالنسبة للمؤرخ والأكاديمي الإسرائيلي بار ايلان صاحب المواقف التاريخية و صاحب الدراسات العلمية النقدية لعقيدة الإحتلال التوسعية و إلغاء الوجود الفلسطيني .
ايلان بابي الذي يصنف ضمن تيار المؤرخين الجدد مؤلف كتب “التطهير العرقي لفلسطين ” و”عشر خرافات عن إسرائيل ” و”الشرق الأوسط الحديث “و غيرها من العناوين التي خرجت عن السائد والمألوف في الداخل الإسرائيلي وحتى في الخارج وقدمت نظرة تاريخية عميقة للقضية الفلسطينية وكشفت حقائق مغيبة عن النشأة الدموية للكيان الإسرائيلي لم تتجاوز في الواقع فضاءات النخب في الخارج و لا تجد لها أرضية صلبة في المجتمع الاسرائيلي .
اعاد ايلان بابي كتابة التاريخ الذي زيفته إسرائيل وإعادة تحديد الصهيونية التي قامت على طرد الفلسطينيين والتخطيط لاسوأ عملية تطهير عرقي ومسح مئات القرى الفلسطينية من الخارطة لتتواصل المجازر على مدى عقود و حتى اليوم و قد شهدت غزة في السنوات الأخيرة خمس حروب مدمرة كان جيش الإحتلال في كل مرة يضيف لسجلة مزيد جرائم الإبادة الموثقة التي أقرتها هذه المرة محكمة العدل الدولية و الجنائية الدولية التي أعلن أنها ستصدر بطاقات جلب في حق مجرمي الحرب نتنياهو و وزيره غالانت في سابقة في تاريخ هذا الكيان الذي طالما حظي بحصانة الحليف الامريكي الأكبر الداعم بالمال و السياسة لكل جرائمه التي لا تسقط بالتقادم .
ايلان بابي الذي لم تجد افكاره و كتاباته في إسرائيل غير النقد و التهديد و الوعيد صوت مهم و هو متحدث بارع و مقنع في ظهوره التلفزي و حواراته ,و أهم و أخطر ما دعا اليه منذ 2005 أن مقاطعة إسرائيل بما في ذلك
المقاطعة الأكاديمية لا بديل عنه للجم الإحتلال ، و اعتباره أن الضغط على إسرائيل من الخارج أحد اهم الاسلحة لإنهاء أفظع احتلال عرفه التاريخ ، يقول بابي في ذلك “أن الإحتلال الإسرائيلي هو عملية ديناميكية ويزداد الأمر سوءًا مع مرور كل يوم ، و أن جمعية أساتذة الجامعات البريطانية بإمكانها أن تختار الوقوف إلى جانب عدم القيام بأي شيء، أو أن تكون جزءًا من حركة تاريخية مماثلة للحملة المناهضة للفصل العنصري في جنوب إفريقيا. وإذا تختار الأخير، يمكن أن تدفعنا إلى الأمام على طول الطريق الوحيد المتبقي الذي سيدوم وغير القابل للعنف لإنقاذ كل من الفلسطينيين والإسرائيليين من كارثة وشيكة”..
طبعا نعرف جيدا عقلية المجتمع الاسرائيلي المؤيدة للحرب و الرافضة لأي حل سلمي دائم مع الفلسطينيين أصحاب الأرض و ندرك أنها عقلية متوارثة بين مخلف الأجيال من المستوطنين اليهود القادمين من مختلف أنحاء العالم بدعوى أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض لتتحول اكبر كذبة في تاريخ الانسانية إلى أكبر نكبة عرفتها البشرية .
* آسيا العتروس .. كاتبة صحفية تونسية
اقرأ المزيد
آسيا العتروس .. لهذه الأسباب لن يجرؤ نتنياهو على قطع العلاقات مع الدول التي تعترف بفلسطين