الرحلة المشؤومة!
عاشت مصر فترات طويلة من عمرها كان لها اليد الطولى شرقا وجنوبا، فامتدت إمبراطوريتها نحو الشرق حتى بلغت الأناضول في عصر تحتمس الثالث وكذا عصور الحكام الأقوياء، كما امتدت جنوبا حتى وصلت إلى ما بعد الشلال الرابع !
لكن .. مرت مصر أيضا بفترات اضمحلال، تقلصت فيها حدود الدولة، وضعفت هيبتها، حتى أوذي (رسلُ) الدولة المصرية ببعض تلك الأقاليم التي كانت تتبع يوما الإمبراطورية المصرية. وكان يحدث ذلك في عصور الملوك الضعفاء الذي تصارعوا على الحكم واستبدوا بالسلطة.
ويحدثنا التاريخ عن رحلة الكاهن المصري (ون آمون)، تلك الرحلة المؤلمة، التي تبين لنا إلى أي مدى وصل بنا الحال من الضعف.
كان الكاهن (ون آمون) أحد كهنة آمون بطيبة، خلال فترة حكم الأسرة الحادية والعشرين (1085 – 950 قبل الميلاد)، وكان يحكم مصر مع بداية تلك الأسرة حاكمان؛ أحدهما (الكاهن حريحور) في طيبة، والثاني (سمندس) في تانيس (أي: صان الحجر) شرق الدلتا.
وكان الكاهن (ون آمون) قد كُلف بالذهاب إلى منطقة جبيل (لبنان حاليا) لجلب خشب الأرز من هناك لأجل تجديد سفينة المعبود آمون في طيبة. فخرج (ون آمون) من طيبة واتجه إلى (تانيس) حيث ملك الشمال هناك (سمندس) كي يأخذ منه الحطاب الرسمي للزيارة، ووبالفعل أخذ الخطاب ومعه معونة من الملك، وحمل معه تمثالا للمعبود آمون، وكمية من الهدايا منها بعض الأواني الفضية كي يقدمها لأمير جبيل (لبنان)!
أقلع الكاهن المصري في سفينة تجارية كان يمتلكها تاجر سوري، غير أنه تعرض للسرقة بتلك السفينة، وبينما هو كذلك إذ به يجد بعض الأواني الفضية لدى بعض الركاب، فاستطاع أن يأخذ بعضها دون أن يشعروا، ولما وصلت السفينة إلى لبنان، اتجه (ون آمون) بالشكوى إلى أمير لبنان المدعو (زكر بعل) طالبا منه جمايته واسترداد ما سُرق منه، غير أن الأمير لم يأبه به ولا بشكواه، خوفا من أن تتعرض سفنه بعد ذلك للسرقة من قبل هؤلاء اللصوص!!
بل إن أمير لبنان لم يكتفِ بذلك، رغم علمه بأن (ون آمون) مبعوث ملك مصر، بل طالب الكاهن بأن يغادر بلاده فورا حتى لا يعرض بلاده للمخاطر. غير أن الكاهن ظل بجوار الميناء تسعة عشر يوما يرفض أن يعود إلى مصر دون أن يأخذ معه أخشاب الأرز، وخلال تلك الفترة سمع كل ما يؤذيه من أقوال، فكل يوم كان يُهدد ويُطلب منه مغادرة البلاد، إلا أنه كان يعتقد أن تمثال المعبود آمون الذي كان يحمله سيكون سببا في سعي أمير لبنان إلى التحقق من شكواه وإعطائه الأخشاب!!
كان حاله هذا سببا في تحرك مشاعر بغض الشباب المتدين هناك، فطالبوا الأمير بالرفق بكاهن آمون، فوافق الأمير على مقابلة الكاهن المصري، غير أنه رفض أن يمنحه بعض الأخشاب إلا إذا أرسل الملك المصري مبلغا كبيرا من المال، ولما تحقق له ما أراد، أو وُعد بذلك، أعطاه الأمير كل ما طلب من أخشاب، وطالبه بالرحيل!
لكن وبينما يستعد الكاهن (ون آمون) لمغادرة لبنان والعودة إلى مصر؛ إذ به يجد في الميناء هؤلاء (اللصوص) الذين ارادوا الانتقام منه لأنه أخبر أمير لبنان بفعلتهم… تقول الرواية؛ إن الكاهن المصري عندما رآهم بالميناء وقف يبكي، ولم يستطع ركوب البحر ، فأرسل إليه الأمير من يرفه عنه، وكانت مغنية مصرية، استطاعت أن تخفف عنه حزنه، حتى تمكن من ركوب البحر بعد أن انصرف عنه (اللصوص)إثر حيلةماكرة!!
لكن وكأن القدر أراد للكاهن ون آمون أن يذوق الأمرّين في تلك الرحلة المشؤومة، فعندما ركب السفينة المحملة بالأخشاب المطلوبة، إذ بالسفينة وربما بسبب عواصف جوية ورعدية لم تستطع التوجه في طريقها المحدد نحو مصر، بل تتجه نحو (قبرص)، وهناك يكاد يقتله أهلُها، لولا وجود من يتحدث المصرية فيترجم ما بينه وبين ملكة قبرص، التي عرفت قصته عطف عليه!!
وإلى هنا تنتهي بردية موسكو التي حملت لنا تلك القصة، ولا ندري لها إكمالا، وهل وصلت الأخشاب إلى مصر ووصل معها الكاهن، أم لا؟؟
وهذه البردية التي تحكي تلك القصة، موجودة الآن في (موسكو)، وكان قد تم العثور عليها بالمنيا في صعيد مصر عام 1891م، ثم اشتراها العالم الروسي (جولينشف).