هاچر عثمان كرباش .. تكتب : هكذا يجب أن تكون نساء القارة السمراء .. (نساء رواندا نموذجا)
في قلب القارة السمراء هنالك بلد صغير اسمه رواندا ، تشكل به المرأة أكبر تقدم على المستوى الدولي في نسبة مشاركة النساء في البرلمانات ، لكن الأمر هناك لم يقتصر فقط على البرلمان وحسب ، فالمرأة في رواندا تشكل اليوم أيضاً ٥٠ ٪ من مجلس الوزراء ، و ٤٤ ٪ من مقاعد مجالس المدن ، ونصف قضاة المحكمة العليا ، أي هناك حضور نسوي مميز جداً و متقدم في مراكز ومنظومة صنع القرار بالمقارنة مع دول القارة الإفريقية وبقية دول العالم.
و بالحديث عن رواندا يجعلنا نتذكر أبشع المجازر الوحشية في القرن العشرين ، التي ذهب ضحيتها أكثر من مليون إنسان ، الأمر الذى أدى إلى وصول المرأة الرواندية لهذه المكانة ونهوض و تقدم رواندا بفضل سواعد نسائها على طريق التطور والتنمية ، و لم تلتفت لما حدث فى الماضى ، وحازت عاصمتها كيجالي على ألقاب دولية عديدة منها ”أيقونة التنمية الأفريقية الحديثة”.
فكيف حدث ذلك؟
في عام ١٩٩٤ وقعت مجزرة أهلية وحشية ، قتل فيها حوالى مليون شخص من قبيلة التوتسي على يد متشددين من قبيلة الهوتو خلال ١٠٠ يوم من العنف الوحشي المنظم ، وذلك بسبب النزاعات التاريخية بين قبيلتى التوتسي و الهوتو منذ الاستعمار الأوروبي .
وبسبب هذه النزاعات اندلعت شرارة المجازر الدموية في ليلة السادس من أبريل ١٩٩٤ بعد سقوط طائرة الرئيس هابياريمانا (من الهوتو) بهجوم صاروخي ومات جميع من كانوا على متنها ، واتهمت ” الهوتو ” جماعات من ” التوتسي ” مسؤولية الحادث ، وقررت الانتقام ، فكانت النتيجة جبالٌا من جثث تكدَّست في الشوارع والمزارع وطفت فوق مياه الأنهار والبحيرات.
ولأن معظم القتلى كانوا من الرجال والعديد من الجناة هربوا إلى الدول المجاورة فإن في حوالى ٧٠٪ من سكان رواندا في مرحلة ما بعد الإبادة الجماعية كانوا من الإناث يومها تكاتفت جميع النساء لإبقاء أسرهن على قيد الحياة فتكفلن بالأطفال اليتامى ، ونظمن مجموعات دعم للأرامل وانتقلن من تنظيف الركام إلى إعادة بناء المباني استزرعن الأراضي ، وباشرن بالأعمال التجارية ، ونجحن في إعادة الاستقرار في جميع أنحاء البلاد التي شهدت أعمال عنف لا توصف.
و بحلول عام ٢٠٠٠ من خلال تطبيق نظام العدالة التشاركية المعروف باسم (غاتشاتشا) ، بدأت عملية إعادة إعمار البلاد ، وهي عمليه كانت أيضاً مترافقة مع عدالة انتقالية ، يمكن أن تكون نموذجاً لجميع الشعوب التي عانت من نزاعات مماثلة.
واعتمدت الحكومة الجديدة سياسات طموحة لمساعدة المرأة اقتصاديا وسياسيا ، بما في ذلك الدستور الجديد لعام ٢٠٠٣ حيث شغلت المرأة ٣ مقاعد من أصل ١٢ مقعدا في اللجنة المكلفة بصياغة دستور ٢٠٠٣ ، وشجعت اللجنة على زيادة تواجد المرأة بنسبة ٣٠٪ في جميع المؤسسات الحكومية .
وتعكس النسبة العالية غير المعتادة للنساء في الحكومة الرواندية الإرادة الشعبية في بلد يبلغ عدد سكانه ١٠ ملايين نسمة وتشكل النساء ٥٥٪ من سكانه اليوم ، فقد تجاوزت النساء حصتهن المقررة دستوريا بكثير واستطعن من خلال الانتخابات التشريعية الوصول إلى نسبة ٦١٪ من المقاعد البرلمانية لتشكل بذلك أعلى نسبة في العالم حتى ليقال اليوم أن رواندا هي أول بلد في العالم تحكمه النساء.
وتشغل النساء الروانديات اليوم ثلث المناصب الوزارية بما في ذلك مناصب وزير الخارجية ووزير التعليم ورئيس المحكمة العليا ومفوض الشرطة.
وقد لعبت النساء أدوارا رئيسية في لجان الحقيقة والمصالحة ، التي عملت غالبًا على مستوى المجتمع المحلى ، كما عملت المرأة كمديرة في تلك اللجان على المستوى الوطني، وكقاضية، وشاهدة رئيسية.
واليوم ، وبعد أكثر من عقدين على الإبادة الجماعية ، تعتبر رواندا واحدة من أكثر الدول استقرارا في أفريقيا ، وهي خالية من الفساد بشكل ملحوظ ، وقد أقر برنامج التعليم الإلزامي التساوي في أعداد الفتيان والفتيات في المدارس الابتدائية والثانوية.
ويمكن للمرأة الآن أن تملك وترث الممتلكات وأن تكون قيادية نشطة في جميع قطاعات الأمة بما في ذلك الأعمال التجارية.
وتطبق الولايات والمشاريع الوطنية برامج الحد من العنف بما في ذلك العنف ضد المرأة.
وفي حين اعتمدت العديد من الهيئات التشريعية الأفريقية مبدأ الكوتا النسائية ، إلا أن أيًّا منها لم يحقق الانجاز المتميز الذي قامت به رواندا ما جعل هذا البلد الصغير مختلفًا عن جيرانه من حيث منظوره الجندري الذي انعكس على تنميته وازدهاره بشكل ايجابي واضح للعيان.
خطت رواندا خطوات عملاقة على دروب التنمية البشرية في فبراير ٢٠١٩ أطلقت أوّل قمر صناعي لها في الفضاء ، وذلك من أجل ربط المدارس النائية بالإنترنت ، وتعزيز فرص التنمية والتعليم للجيل الجديد ، ومن المقرر أن يتبع هذه الخطوة إطلاق قمر صناعي ثانٍ لأبحاث الفضاء ، والمساعدة في جمع البيانات حول موارد المياه والكوارث الطبيعية والزراعة والأرصاد الجوية .
لقد غدت رواندا -وفقًا لصندوق النقد الدولي- أحد الاقتصادات الأسرع نموًا في العالم بمعدل نمو سنوي فاق أحيانا ١٢٪ ، ونجد أن رواندا أصبحت دولة يحتذى بها في مجالات التنمية الاقتصادية والتخطيط.
وفي محاربة الفساد والإصلاح الاقتصادي تذكر الأمم المتحدة أن رواندا “شجّعت على خلق بيئة خالية من الفساد وعاصمة نظيفة وحكومة تدار إدارة جيدة وفعالة تسعى من خلالها الدولة الرواندية إلى جذب الاستثمار الأجنبي المباشر”.
وقد أشاد البنك الدولي برواندا لكونها دولة “حققت تطورًا مثيرًا للإعجاب” ، رواندا التي تسجل أيضاً أعلى نسبة تعليم إلزامي للطلاب في المرحلة الابتدائية على مستوى أفريقيا تبلغ نسبة الالتزام فيها ٩٩٪ من عدد طلابها في ٩٩٪ من مدارسها ولقد أشادت منظمة اليونيسف بذلك بالإضافة إلى انخفاض معدل وفيات الرضع في رواندا (وهو يُعد مقياساً مهماً في تنمية البلاد) إلى النصف منذ عام ٢٠٠٠.
وتحظى العاصمة الرواندية كيجالي في وسائل الإعلام الدولية والمحلية بالإشادة باعتبارها “سنغافورة إفريقيا ” وذلك بسبب التدابير الكثيرة المتخذة والعمل الدؤوب لتحسين الأوضاع الاجتماعية والبيئية مثل تحسين ظروف سكان الأحياء الفقيرة في العاصمة وتحسين إدارة النفايات إضافة إلى حظر الأكياس البلاستيكية والتدخين في الأماكن العامة.
لقد أظهرت نساء رواندا لأول مرة في التاريخ ما يمكن أن يحدث عندما تكون النساء وكامل مواهبهن، مشمولات بعملية بناء السلام. ولاشك أن تلك التجربة الهامة لابد أن تكون مثالًا يحتذى به على الصعيد العالمي حيث يمكن للنساء أن تلعب دورًا هاما في إحلال السلام والحفاظ عليه والعدالة الانتقالية وإعادة الإعمار.
و ختاماً تشهد رواندا اليوم نهضة حقيقية على جميع الأصعدة وهذا ما يثبت لجميع المشككين أهمية المشاركة النسائية الفاعلة في الشأن العام وفي جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في بناء السلام وإعادة إعمار البلاد.
» هاچر عثمان كرباش :
باحثة بالشأن الأفريقي – كلية الدراسات الافريقية العليا جامعه القاهرة