المغرب انخرط منذ 14 سنة في مخطط للإصلاح الرياضي، بدايته كانت “الإستراتيجية الوطنية للرياضة (2008 – 2020)”
لحسن العسبي (*
تسمح لنا مباراة في كرة القدم، أن نعيد ترتيب عدد من المعلومات بما يعزز من قوة العلاقة بين شعبين ودولتين من مستوى وقيمة المغرب ومصر/ مصر والمغرب (بشريا وحضاريا وتاريخيا). مثلما أنها تسمح لنا بالإستفادة من تجارب بعضنا البعض، لما فيه تطوير واقع بلداننا وشعوبنا، ضمن أفق بناء. ولقد شكلت تداعيات اللقاء النهائي لكأس الفرق البطلة الإفريقي، الذي جمع كلا من فريق الأهلي المصري (أعرق الفرق المصرية) وفريق الوداد المغربي (أعرق الفرق المغربية) يوم 30 ماي 2022، فرصةً لبروز خطاب عمومي ومؤسساتي وإعلامي، حين نعيد قراءته بهدوء اليوم، غارقٌ في أحكام مسبقة وإطلاقية وحتى انفعالية، يستوجب توضيحات تقدم خدمة للحقيقة، تكون نتائجها مفيدة لنا جميعا مصريا ومغربيا وإفريقيا.
كان التوجه العام الغالب، في بر مصر، كما عكست ذلك مختلف البلاطوهات التلفزية التحليلية والكتابات الصحفية (ورقيا وإلكترونيا)، يذهب في اتجاه شخصنة المقاربات، عبر التركيز على شخص السيد فوزي لقجع بصفته رئيس الجامعة الملكية لكرة القدم، نائب رئيس “الكاف” وعضو المكتب التنفيذي ل “الفيفا”. لدرجة تحويله إلى نوع من “السوبرمان” المالك للعصا السحرية لتطويع مؤسسة “الكاف” بما يخدم مصلحة اللعبة ببلده المغرب.مثلما كانت تذهب الغالبية العظمى من تلك الخطابات التحليلية والتواصلية والإعلامية، في اتجاه “شيطنة” ما تعتبره قوة نفوذ للمغرب ضمن أروقة تلك المؤسسة الرياضية الإفريقية الوازنة (وهو نفس ما تذهب إليه للأسف حتى العديد من وسائط التواصل والإعلام بكل من تونس والجزائر)، بما معناه أن الحضور المؤسساتي المغربي، المهم التذكير أنه قد تم بشكل ديمقراطي في جموع عامة ل “الكاف” وتحت رقابة دولية من حجم “الفيفا”، هو حضور ذي نفوذ يسمح بممارسة نوع من “اللوبي” الموجه للنتائج المغربية في مجال اللعبة سواء على مستوى المنتخبات أو الفرق. وأن مما ضاعف من هذا التوجه في تلك القراءة والتحليل، الزخم الذي أصبحت تحققه الفرق المغربية لكرة القدم على مستوى كافة البطولات الإفريقية (كأسي العصبة والكاف وكأس السوبر الإفريقي)، وكذا على مستوى المنتخبات في المسابقات القارية (خاصة الشان، والأولمبي والشباب وكرة القدم النسوية والفوتصال)، خلال العشر سنوات الأخيرة.
الحقيقة، إن ذلك كله فيه غير قليل من التجني ومن الأحكام المسبقة الجاهزة، حتى لا نقول إنه لا يزال سجين تجارب “غير أخلاقية” رياضيا في مجال التدبيري القاري للعبة ظلت مهيمنة لعقود، أساءت للروح الرياضية وأساءت لمصداقية صورة الرياضة في إفريقيا عالميا (زمن غير المأسوف عليه السيد عيسى حياتو). والفرصة مواتية، كي نعرض أمامكم، بعضا من أسباب ذلك التحسن في الحضور القاري لرياضة كرة القدم مغربيا، من زاوية معالجة أخرى مختلفة.
ذلك أن ما يسجل اليوم من نتائج رياضية مغربية، إنما هو نتيجة طبيعية لمسار إصلاحي رياضي طويل النفس، انطلق مغربيا منذ سنة 2008، أي منذ 14 سنة. وهو مسار إصلاحي تحقق عبر مخطط وطني بأذرع متعددة، ترجم توفر استراتيجية عمومية على مستوى الدولة، لإعادة هيكلة وإصلاح الرياضة بالمغرب. وهي استراتيجية مسنودة برؤية سياسية، تعتبر الرياضة واجهة من واجهات التربية العمومية وأنها أيضا واجهة ل “الديبلوماسية الموازية”، الخادمة بشكل إيجابي لصورة المغرب والمغاربة ضمن مهرجان الدول والشعوب عبر العالم.
لقد وجد ذلك التوجه الإصلاحي ترجمته مغربيا في تنظيم أول “مناظرة وطنية للرياضة” أيام 24 و 25 أكتوبر 2008، تميزت ليس فقط بخروجها ببرنامج عمل مدقق، أطلق عليه “الإستراتيجية الوطنية للرياضة في أفق 2020″، بل بمضمون الرسالة الملكية المزلزلة التي وجهها العاهل المغربي محمد السادس إلى المشاركين في تلك المناظرة بمدينة الصخيرات (جنوب الرباط)، من حيث إنها كانت رسالة تشريحية بجرأة نقدية لواقع التدبير الرياضي بالمغرب، الذي وصفته بالحرف ب :
•”إن الرياضة المغربية تشهد تراجعات تجسدها النتائج الهزيلة والمخيبة للآمال، وهو ما لا نرضاه لبلدنا، ولا يقبله كل ذي غيرة وطنية، ولا يمكن أن تحجبه بأي حال من الأحوال بطولة أو تألق بعض المواهب الفردية” .
• “إن من التجليات الصارخة لاختلالات المشهد الرياضي ما تتخبط فيه الرياضة من ارتجال وتدهور، واتخاذها مطية من لدن بعض المتطفلين عليها للارتزاق أو لأغراض شخصية إلا من رحم ربي من المسيرين”.
•. “إن تحديد المسؤوليات غالبا ما لا يجري بشكل واضح في حين لا تتوفر عناصر الشفافية والنجاعة والديمقراطية في تسيير الجامعات والأندية، ناهيك عن حالة الجمود التي تتسم بها بعض التنظيمات الرياضية”.
•. “لتجاوز الأزمة الحالية فإنه يتعين وضع نظام عصري وفعال لتنظيم القطاع الرياضي، يقوم على إعادة هيكلة المشهد الرياضي الوطني وتأهيل التنظيمات الرياضية للاحترافية ودمقرطة الهيئات المكلفة بالتسيير”
•”نحثكم على أن تجعلوا هذه المناظرة قوة اقتراحية تصدر عنها توصيات واقتراحات عملية، تكون في مستوى التحديات التي تواجه رياضتنا الوطنية وتستجيب لتطلعات الجماهير الشعبية ومواطنينا في الداخل والخارج للمزيد من الإنجازات والبطولات”.
كان من نتائج تلك المناظرة، أن وضعت “استراتيجية وطنية للرياضة” (2008 – 2020)، بدفتر تحملات محدد ومدقق، بأهداف ذات أجندة عملية، كان من نتائجها في ما يخص لعبة كرة القدم، إعادة هيكلة شمولية للمجال التدبيري للعبة، تكاملت فيه ثلاثة أذرع رئيسية:
تحديث النظام المؤسساتي لممارسة كرة القدم (الإحترافي والهاوي)، بالشكل الذي يحقق شفافية مالية في تسيير كل الفرق، وتحويلها إلى شركات رياضية. وكذا انتخاب مسؤوليها ضمن جموع عامة شفافة ومراقبة وديمقراطية (جامعة وعصب وفرق).
إطلاق برنامج تطويري للبنى التحتية لممارسة اللعبة (إلزامية التوفر على شروط الفيفا في كل ملاعب القسم الممتاز وقسم الدرجة الثانية، من تجهيزات طبية وعشب طبيعي وإنارة وأمن ومستودعات عصرية). وأن يشمل ذلك ما هو مركزي وجهوي، عبر إنشاء مركبات رياضية عصرية للتكوين والتدريب (نموذجها الأكبر مركز محمد السادس الدولي لكرة القدم بمقاييس عالمية).
إلزامية تنويع شرائح ممارسي اللعبة على مستوى السن والنوع، حيث إلزامي التوفر على مراكز تكوين لكل الفرق الممارسة من مختلف المستويات العمرية، وكذا إلزامية التوفر على فريق نسائي لكرة القدم من مختلف المستويات العمرية. وأيضا إلزامية توفير شفافية الأجور والتأمين الصحي وصندوق رياضي للتقاعد.
كانت من نتائج ذلك اليوم، توفر كل فرق الدوري الممتاز وفرق الدرجة الثانية، على مراكز تكوين، على ملعب بعشب طبيعي، على بنية إدارية قارة (لكل فريق ناطق رسمي، مدير مركب رياضي، فريق طبي، خبير قانوني، خبير محاسباتي، مدير تقني). بل إن بعض تلك الفرق تتوفر على مراكز تكوين وتدريب مستقلة بمقاييس دولية مثل فرق الفتح الرباطي، الجيش الملكي، نهضة بركان، الرجاء الرياضي، الوداد الرياضي، حسنية أكادير. وأصبحت مدن متوسطة مثل القنيطرة، الحسيمة، وجدة تتوفر على ملاعب لكرة القدم دولية وحديثة بمقاييس الفيفا، تعزز الملاعب الدولية الكبرى لكل من مدن الدار البيضاء، الرباط، مراكش، فاس، طنجة وأكادير.
وأن ذلك قد توازى مع أمرين حيويين موازيين، هما خلق بنية مستقلة لكرة القدم داخل القاعة (الفوتصال)، وبطولة لكرة القدم النسائية ممتدة على كامل خريطة المغرب.
مع الحرص على الإلتزام ببرنامج تأطير للتكوين المستمر، يشمل المدربين، الخبراء الماليين والإداريين، الطب الرياضي، التحكيم والأمن الرياضي. وأيضا تجهيز كل ملاعب مقابلات فرق الدرجة الأولى بتقنية “حكم الفار”، وسن قانون جديد للحكام للحماية المالية والإجتماعية والرقابة والتقييم، وتطوير الإطار القانوني للعصبة عبر الإنتخاب (العصبة هي التجمع التدبيري المشرف على كل أمور فرق الصفوة)، ولجنة البرمجة ولجنة الأخلاقيات والعقوبات.
بالتالي، فإن نتائج كرة القدم بالمغرب ليست ضربة حظ أو وليدة الصدفة أو بسبب عمل أفراد في مستوى قاري أو دولي، مهما كانت كفاءتهم الشخصية. بل هي نتائج عمل إصلاحي انطلق منذ 14 سنة، بدأت تجنى بعض ثماره اليوم. مع التسطير أن مخطط إصلاح الرياضة (وكرة القدم من ضمنها) بالمغرب، ليس معزولا عن مشروع تنموي أكبر وأشمل انخرط فيه المغرب مؤسساتيا منذ أكثر من 25 سنة تقريبا، عبر تنويع مصادر إنتاج الثروة اقتصاديا، التي لم تعد مرهونة فقط بما تجود به الثروات الطبيعية (فلاحة، معادن، سياحة)، بل فتح الباب أمام قطاعات صناعية وإنتاجية استراتيجية جديدة (الطيران، السيارات، الإتصالات، الصناعات الطبية والصيدلية)، وإعادة هيكلة شمولية لكل ما هو مالي (قطاع الأبناك، قطاع التأمينات).
مع إعادة هيكلة شمولية للبنى التحتية المسهلة للإستثمار من طرق سيارة جديدة، من موانئ دولية كبرى جديدة (أهمها ميناء طنجة المتوسطي وقريبا ميناء الناظور الدولي بالمتوسط وميناء الداخلة بالمحيط الأطلسي، الذي سيكون أكبر موانئ الضفة الأطلسية لإفريقيا في أفق سنة 2030)، وكذا قطاع الإتصالات (ج. 4، وهيكلة شمولية تسمح اليوم بتنفيذ مشروع ج. 5، وامتلاك خطوط كابلات بحرية حديثة بين إفريقيا الغربية وأروبا).
إن من آخر الخطوات الحيوية التي قام بها المغرب، ضمن مخططه الإصلاحي الرياضي، إلحاق قطاع الرياضة والشباب بوزارة التربية والتعليم، ضمن مخطط وطني طموح لتطوير “الرياضة المدرسية” بشروط الإنتاج العصرية بالمقاييس الدولية الواجبة. لأن المشتل الأول والطبيعي لتطوير الرياضة كآلية تربوية وتنافسية هو مجال “التربية والتعليم” من المستوى الإبتدائي حتى الجامعي العالي، مرورا بالإعدادي والثانوي.
لحسن العسبي (*)
(*) كاتب وصحفي من المغرب
