يوسف العومي يكتب: الحضارة المصرية القديمة بين الادعاءات الزائفة ودورها كمنطلق رئيسي للمعرفة والعلم والفن للعالم
بين الفينة والآخري تطفو علي السطح جماعات من أعراق متدنية ليس لها تأثير في تاريخ البشرية، تدعي زيفًا أن لأجدادها مساهمات حضارية، كان أقربها الادعاءات التي ساقتها إحدي هذه الجماعات بأن اجدادهم هم بناة الأهرامات والحضارة المصرية، لكنهم سرعان ما يصطدمون بأراء وأدلة ودراسات وتحليلات بعض العلماء الذين حملوا وأعلوا علي عاتقهم مبدأ الأمانة العلمية، لدحض هذه الادعاءات بالخوض في أغمار التاريخ لكشف حقيقة ما كان عليه أجدادهم، وأن جُل مساهماتهم أنهم كانوا عبيدًا في خدمة نخبة مصر القديمة وملوكها.
لكن يبدو أن الحضارة المصرية القديمة هي الحائط المنيع الذي لم يستطيعوا تسلقه، فشرعوا في زرع فكرة في رؤوس آخرين بأن أجدادهم هم أصل بناة الحضارة المصرية كجماعة المركزية الأفريقية أو الأفروسنتريك (بالإنجليزية: Afrocentrism) هو نموذج فكري يسعى إلى تسليط الضوء على الهوية والمساهمات الخاصة للثقافات الأفريقية في تاريخ العالم. يجادل الأفروسنتريك بأن المجتمع العلمي الغربي يستهين بالحضارات الأفريقية، ويشارك -بوعي أو بدون وعي- في مؤامرة لإخفاء المساهمات الأفريقية في التاريخ.
بدأت هذه الجماعة في الظهور منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وتتمركز خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية عند الأفارقة الأمريكيين، وأصبح لها انتشار واسع بين الجاليات الإفريقية جنوب الصحراء في أوروبا، وبين الأفارقة جنوب الصحراء وعند الأقليات السوداء في شمال أفريقيا والشرق الأوسط.
يؤيد أنصار المركزية الإفريقية عدة ادعاءات مثل أن مساهمات الأفارِقة السود قد تم التقليل من شأنها أو تشويه سمعتها كجزء من إرث الاستعمار وعلم أمراض العبودية المتمثل في “إخراج الأفارقة من التاريخ”. من بين أكبر النُقّاد للنزعة المركزية الأفريقية ماري ليفكوفيتز، التي رفضتها باعتبارها تاريخ زائف، وانها أسلوب عنيد يتجاهل الحقائق. ويدعي كلارنس إي ووكر أنها مثل المركزية الأوروبية لكن بنسخة إفريقية.
كتاب “The Making of Man: An Outline of Anthropology”
وفي الفترة الأخيرة نجد بين الحين والآخر وعبر منصات التواصل الاجتماعي مقارنات تسلط الضوء على الامتداد الثقافي المذهل للحضارة المصرية القديمة، وصولاً إلى أعماق إفريقيا والصحاري الكبرى، لكن في هذه المرة جاء الرد ودحض هذه الادعاءات من خارج الدوائر العلمية المصرية، وبرز كتاب “The Making of Man: An Outline of Anthropology” كواحد من أعمق الدراسات العلمية التي تتناول أصول الإنسان وتاريخ الحضارات، مقدماً إجابات شافية على الادعاءات المرتبطة بهذه المقارنات.
وقد أبرزت محاور الكتاب، دور مصر كمركز حضاري عالمي: حيث توضح هذه الدراسة الصادر نسختها الرقمية في 17 يوليو 2007 رغم أنها مؤلفة منذ نحو 100 عام أن مصر لم تكن مجرد حضارة محلية، بل كانت منطلقاً رئيسياً للمعرفة والعلم والفن إلى العالم، امتدت تأثيراتها إلى آسيا وأوروبا وأمريكا، لتصبح صرحاً حضارياً عالمي الطابع، وكشف الكتاب عن ممارسات وعادات انتقلت من مصر إلى مناطق أفريقية أخرى مثل السودان وإثيوبيا، مما يؤكد وجود شبكة ثقافية عريقة ربطت شمال القارة بجنوبها منذ آلاف السنين.
وأكدت هذه الدراسة الفريدة من ضمن محاورها أن التأثير المصري على الحضارات الأخرى، أمتد ليشمل مناطق بعيدة مثل الهند وأوقيانوسيا، عبر التجارة والملاحة، مما يعكس دور مصر كلاعب رئيسي في تشكيل التاريخ الثقافي والاقتصادي للبشرية.
والأغرب والدليل الدامغ الذي لا يمكن نكرانه أن الكتاب ركز على الهوية “المصرية” للحضارة القديمة دون أن يمنحها الاعتراف علي أنها جزءًا لا يتجزأ من النسيج الأفريقي. هذا التوجه يؤكد الأبحاث الأكاديمية القديمة التي سعت لفصل عن أصول شعوب جنوب الصحراء.
ولكن الأدلة التاريخية والربط الثقافي بين مصر ومحيطها الأفريقي، سواء في الماضي أو حتى اليوم عبر المشاريع الاقتصادية والمبادرات الثقافية، تقدم منظوراً أوسع يعزز فهمنا للعلاقات الأفريقية المصرية.
غير أن رسالة مصر للعالم، تؤكد أن الحضارة المصرية القديمة، التي أثرت في تطور حضارات إفريقيا وجيرانها، كانت جزءاً من حركة ثقافية أوسع. ومع ذلك، تبقى مصر حاضرة بقوة في المشهد الأفريقي كمنارة للإبداع والتأثير، وليس مجرد انعكاس لادعاءات تتعلق بأصول خارجية.
إقرأ كذلك:-
الديانات الأفريقية وتأثيرها على الحياة الاجتماعية للأفارقة في القرن الـ 20
يوسف العومي يكتب: ” شرب القهوة” حرام شرعاً برأي فقهاء الاسلام ورهبان الكنيسة
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.