الكاتب السوداني مكي المغربي يكتب : شكرا مهرجان الأقصر .. الهمتنا هذه الآراء!
كثيرة هي مهرجانات السينما والثقافة والمسرح والدراما في مصر، ولكن من بينها أكثر حدث يهمني هو مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، والتحية للرجل العظيم سيد فؤاد رئيس المهرجان وكل الكوكبة المنيرة للسينما في القارة السمراء.
المهرجان بالنسبة لي ليس أفلاماً وحسب، أنا أصلاً لست سينمائياً ولا ناقداً، لدي مسرحيات وإسكتشات قليلة في الكوميديا السياسية موجهة نحو الداخل السوداني وأعتبرها مسئولية ثقافية تجاه بلدي أكثر من كونها تخصصاً أو عملاً، ولكن يظل المهرجان بالنسبة لي حدثاً مهماً في ارتباط مصر بل ووادي النيل كله بالقارة السمراء، ويبقى هذا الحدث العظيم بالنسبة لي مدخلاً جميلاً لأصدقائي الأفارقة لتقريب مصر لمن يراها كوكباً منفصلاً في سماء الدنيا وليست جزئا من “طين أفريقيا”، بل مصر هي أفريقيا ذاتها في التاريخ والحضارة وقيادة التحرير.
من أكثر ما أناقش فيه أصدقائي الإثيوبيين مثلاً أن أسطورة مصر تتخذ من إثيوبيا عدواً، هي مجرد خيال ترعاه بعض النخب السياسية الإثيوبية وتغذيه قوى خارجية بغرض الوقيعة بين البلدين، واسمحوا لي بمناقشة هذا الأمر قبل أن أعود وأسرد لكم كيف يساهم مهرجان الأقصر في التأكيد على صورة مصر المشرقة وإزالة ما تبقى من الأساطير الغربية في القارة.
سؤالي المفصلي، هل ينقص مصر أعداء لتبحث عنهم؟ مصر تقوم بواجب حراسة ثلاثة أمم وهي العربية والإسلامية والأفريقية من عدوان مستمر، الظاهر منه هو إسرائيل والحقيقي منه هو المطامع الإستعمارية الغربية في القارة كلها وليس مصر وحدها، ولذلك حتى الأفارقة لديهم ذات النظرة لإسرائيل وارجعوا للميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب 1981 والذي نص على أن ” الصهيونية شكلاً من أشكال الاستعمار ” ، وحينها كانت إسرائيل تدعم وبقوة نظام الفصل العنصري في بريتوريا وتعادي كل حركات التحرر في الجنوب الأفريقي ولذلك تأخر استقلالها عشرين سنة عن تحرير بقية أفريقيا، واعتبرت أفريقيا الصهيونية جزء من ترسانة الإستعمار، وبقي نظام الفصل العنصري حتى التسعينات، وخسرت الصهيونية المعركة، وهذا يفسر موقف جنوب أفريقيا ازاء صراع الشرق الأوسط.
من هو الأكثر إكتواء ومواجهة للصهيونية في أفريقيا و برز بطلا شامخا كبيرا والقارة من وراءه يحميها من شرها، إنها مصر، لقد نصرها الله بعد حرب ضروس لتحرير ترابها المحتل في سيناء، وظلت بعدها تعاني من حالة من التربص المخيف على مدى سنين، آخرها حرب وتخريب السودان، والغرض هو تجريف ديموغرافي لتهجير أهل الوسط والنيل في السودان والزج بهم لاجئين في مصر، وفي ذات الوقت التعامل مع أهلنا في غزة باعتبارهم فائضاً بشرياً وتحاول سكبهم في مصر، وتوطينهم في سيناء.. دولة تمر بمثل هذا هل يعقل أنها تبحث عن عدو إضافي؟ مستحيل.
ألم أقل لكم إنها اسطورة!
دولة مثل هذه هل الواجب على الدول الأفريقية وعلى رأسها إثيوبيا الوقوف معها وإسنادها لما تقوم به من مهمة تاريخية إنابة عن القارة السمراء أم الاستسلام لدعاية مغرضة حولها أنها العدو الاستراتيجي لإثيوبيا !!. غير صحيح، مصر ليست عدوا لأي دولة افريقية، بل هي الحليف الأقوى، ولا عاش من يفرق بين إثيوبيا ومصر والسودان.
إثيوبيا يجب أن تكون في مقدمة الصفوف لأنها هي التراب الأفريقي الذي لم تطأه قدم المستعمر أبداً، وظلت إمبراطوريتها درساً عصياً على أوروبا، ومعركة عدوة تشهد ولكن .. هاهنا سؤال: لماذا توجد هذه المساحة بين النخب الإثيوبية أو فلنقل بعض المفكرين والناشطين السياسيين في ذلك التصور الخاطئ عن مصر؟ نعم يجب أن نؤكد أن الغالب لا يفكر بهذه الطريقة ولا يصدق أسطورة عداوة مصر .
بعد هذا التحليق السياسي دعونا نهبط أرضاً على مطار الأقصر في برها الشرقي ونمد أعيننا إلى البر الغربي حيث معبد حتشبسوت، وأحيلكم على مقالي (صحفي من زمن حتشبسوت) حيث استطاعت هذه الملكة المصرية من ضم البحر الأحمر إلى طريق البخور الهندي، وهو سابق لطريق الحرير الصيني، والمفاجأة أن رحلة حتشبسوت لبلاد البنط لم تكن للصومال فقط، ولم تكن الرحلة الوحيدة، ولكنها الرحلة الملكية لتدشين الربط المصري مع القرن الأفريقي بحراً وبراً، لأنها اختارت طريق العودة بالبر عبر النوبة، وتأتي بعض البحوث لتؤكد أن مومياء القرد الذي جاء مع الرحلة تعود لمنطقة القاش بين الهضبة الإثيوبية والسودان حالياً، وهذا ما يعزز أن العودة تمت عبر النوبة، للملكة وحدها، وعودة بقية السفن بالبحر.
في الأقصر تنهض الأفريقانية مجدداً عبر مهرجان السينما الأفريقية ويعزز حديثي عن دور مصر الريادي المؤسس على فكرة التعاون والتكامل الأفريقي، فالمهرجان فضاء أفريقي وللجارة إثيوبيا فيه نصيب وافر، بمشاركة المخرج الإثيوبي العالمي هايلي جريما وتكريمه في المهرجان ومشاركته في نسختي 2014 و 2017، وقيادته لمحاضرات وورش تدريب للمبدعين الأفارقة والشباب، ومشاركة الناقد السينمائي الإثيوبي يماني ديمسي في نسخة 2015، وتستمر العلاقات الإثيوبية المصرية دون انقطاع وبحرص واضح من مصر على الحضور الإثيوبي. قلت للصديق الذكي الذي أمدني ببعض المعلومات والمقترحات الإيجابية أنني أطمع في ظهور نجم إثيوبي في فيلم مصري، لأن المشاهد من أي بلد يميل دوماً للفيلم الذي يوجد فيه ممثل منه، وضربت لذلك مثلاً بظهور ممثلين ومطربين سودانيين في أفلام مصرية مما جعل هذه الأفلام محفورة في ذاكرة أي سوداني، منها أغنية “اظهر وبان” للفنان السوداني ابراهيم عوض في أحد افلام اسماعيل يس، وأغنية المامبو السوداني للمطرب سيد خليفة في فيلم تمر حنة.
لماذا لا يتزين فيلم مصري بممثل أو أغنية إثيوبية؟
في حقيقة الأمر هنالك تباين لغوي جعل الدراما المصرية تتأخر بينما تتقدم التركية والهندية والمكسيكية في إفريقيا، وذلك لسبب واضح وبسيط جداً، وهو الدبلجة بلغات أفريقية متعددة، للمسلسلات الطويلة من الدول المذكورة، ولذلك فالمطلوب دبلجة باللغات الأفريقية ومن ضمنها الأمهرية والأرومية والتغرينية والصومالية ومعظم اللغات المستعملة في إثيوبيا.
الذي يفسر أن السودان مكانة مصر فيه “محروسة” عبر الأجيال هو إدمان الدراما المصرية وبالذات الكوميديا. صورة المصري في العالم العربي كله ترتبط باللطف والذوق والقدرة على التفاهم والإضحاك، لماذا لا توجد صورة مختلفة في إثيوبيا؟ السبب بسيط هو عدم وصول الثقافة المصرية بذات المقدار الذي وصل للجمهور العربي، بالدبلجة من الممكن وصول جزء منها وسيكون كافياً لهزيمة مخططات التفرقة، وللأبد.
الشكر لمهرجان الأقصر الذي ألهمنا هذه الكتابة، وبالتوفيق للنسخة الـ 14 في يناير 2025.
* لقصر بلدنا بلد سواح فيها الأجانب تتفسح
* وكل عام وقت المرواح بتبقى مش عايزه تروح
اقرأ المزيد