آسيا العتروس تكتب .. المفاضلة بين الرغيف والتعليم . !.
هل يمكن أن تتجه أنظار الأطفال الذين يعانون من شح الماء والدواء والغذاء إلى البحث عن الكتاب أو المدرسة أو فرصة للتعلم.. بكل المواصفات تبقى المفاضلة مستحيلة والخيار غير جائز سواء تعلق الأمر بالآباء أو كذلك بالأطفال، فالأمعاء الخاوية لا يمكنها أن تقع في إغراءات الألف والباء عندما تكون حياة الطفل مهددة. هناك حقيقة واضحة اليوم وهي أن العالم يقف عاجزا أمام أجيال بأكملها تحتضر وتقترب كل يوم أكثر من الموت البطيء بسبب تعدد المحن وأولها وأخطرها محنة الجوع مع تفاقم تحديات الحرب الروسية في أوكرانيا التي تأتي لتضاعف معاناة جائحة كورونا التي كان العالم يعتقد انه اقترب من مرحلة الخلاص من قيودها وأنه سيتجه للخروج من دائرة الاختناق الذي عاشه مع فيروس كورونا قبل أن يتضح أن النفق لا يزال طويلا وأن الانفراج ليس بوشيك مع دخول الحرب الروسية في أوكرانيا شهرها الثامن على التوالي دون أدنى مؤشرات عن نهاية الحرب التي يدفع ثمنها الأضعف والأكثر هشاشة.
وفي الوقت الذي تتجه فيه الأنظار إلى أوكرانيا وفي الوقت الذي توجه فيه المساعدات الإنسانية والاقتصادية والعسكرية من كل حدب وصوب إلى هذا البلد لتعزيز قدراته على رد ومواجهة الحرب الروسية فان انتظارات الشعوب التي ستواجه الموت جوعا مع تراجع سلة المساعدات إليها تتضاءل يوما بعد يوم ..
الحقيقة أن مجتمعات كثيرة تعيش اليوم على وقع الموت البطيء لأجيال تحترق في صمت بعد أن عجزت أصواتها عن تحريك الضمير الإنساني الدولي والدفع لإنهاء مآسي الملايين ممن فاقمت أزمة كوفيد وتداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا معاناتهم المنسية.
نقول هذا الكلام ونحن نرصد التقارير اليومية والتحذيرات التي لا تكاد تغيب عن المنظمات الحقوقية عن حال الأطفال في اليمن وفي جنوب السودان وفي سوريا ممن فرضت عليهم الأزمات الغذائية المعقدة القطع نهائيا مع الفرص المتاحة للوصول إلى المدارس .
ممثلة اليونيسيف في اليمن، سارا بيسلو نيانتي، تؤكد أن مليوني طفل خارج المدارس، وأن 3.7 ملايين آخرين معرّضون لخطر التسرّب مع بدء العام الدراسي… طبعا سيكون من الغباء التساؤل عن الأسباب وراء هذه المخاطر التي تهدد أجيال المستقبل والمجتمعات التي تنتمي لها عندما ستجد نفسها تتحمل عبء جيوش من الشباب الأمي العاجز عن فك الحروف…، فالأكيد أن الأزمات والصراعات الدموية والحروب التي لا تكاد تتراجع إلا لتعود من جديد وراء تفاقم مآسي الأطفال في اليمن الذين يجدون أمامهم الطريق معبدة نحو الانخراط في الجماعات المسلحة منذ سن مبكرة أو يقعون في فخ عمالة الأطفال فيما يفرض على الفتيات الزواج المبكر كحل غالبا ما تلجا إليه العائلات المعوزة للتخفيف من أعباء الحياة والإفلات من قيود العادات والتقاليد المجتمعية التي تجعل من الفتاة مصدرا لجلب المشاكل أو العار لعائلتها فيكون التخلص منها بالزواج المبكر اقصر الطرق للحد من أعباء الحياة ..
دقت منظمة “سايف ذي تشيلدرن” الإغاثية غير الحكومية ناقوس الخطر الخميس، معلنة أنّ حوالي 1.4 مليون طفل من اليمن إلى جنوب السودان تكاد الصور تتشابه مع اختلاف في الأسماء والعناوين فالمعاناة هناك ومنذ انفصال جنوب السودان عن السودان الأم ليست بأفضل حال.. ومعاناة أطفال جنوب السودان دون سن الخامسة معاناة مضاعفة وكان الجوع والبؤس لا يكفي حتى فرض على أطفال جنوب السودان أن يقطعوا الأمل مع فرصة التعليم والتخلص من الجهل والأمية.. الأسباب ذاتها تتكرر من الكوارث الطبيعية إلى الصراعات والحروب والفساد السياسي والمالي والإداري وفساد العقول والجيوب الفارغة لملايين العائلات التي تبحث عن لقمة العيش لأطفالها جعلت أكثر من 1.4 مليون طفل في السودان يعانون من الجوع.
دولة جنوب السودان التي رأت النور قبل عقد من الزمن بقيت على ما كانت عليه من فقر وتخلف بل ربما زاد انتشار الفقر فيها ولم يساعدها الاعتراف بإسرائيل والانسياق وراء مشروع التطبيع في تغير المشهد البائس في هذا البلد الذي كان يعد جزءا من السودان سلة إفريقيا التي تعيش اليوم على المساعدات الإنسانية والهبات التي غالبا ما تذهب لغير مستحقيها …
كان يمكن أن نقول أن الحرب ليست قدرا وأن الجوع ليس قدرا أيضا لو أن الدول الأكثر معاناة اليوم كانت تمتلك سلطة القرار ولتوظيف إمكانياتها وقدراتها وشعوبها في غير ما انتهت إليه من ضياع ومهانة وذل.. ولكنها راهنت بدلا من ذلك على تعبيد الطريق إلى الجحيم بكل ما يمكن أن تعنيه هذه العبارة من تأويلات …
• نقلا عن جريدة الصباح التونسية