السفير عمرو الجويلي يكتب .. “الزيرو” العصرى و”الصفر” الأصلي: تجاذب الفكر بين العامية والانجليزية ونعم … العربية
يعتقد بعضُنا أن اللغة العامية التي نستخدمها الآن، كانت دائماً السائدة دون تغيير من كائن من كان. وبالتالي، فمن يستخدم تركيبة لغوية لم تعد دارجة، أو لا سمح الله، اللغة الفصحى، فكأنما يترفع عن الحديث كحديث العامة والشعب بما يبرر أن ينظر المستمع إلى المتحدث نظرة استغراب مقابل ما يراه أنه استعلاء أو ابتعاد. وفرضية هؤلاء أن اللغة التي نستخدمها شفهياً حالياً مطابقة دون تطوير أو تغيير لما كان عليه الأمر منذ عام، أو عقد، أو قرن.
وربما اللغة العربية هي من الأكثر معاناة من هذه الظاهرة، باعتبار أن اللغة، أو لندقق أكثر اللهجة، المستخدمة شفهياً، أي العامية كما نسميها في معظم وادى النيل والشام، والدارجة كما هي مسماة في معظم المغرب العربى، مختلفة عن اللغة المكتوبة، أو لطالما ظلت كذلك. أقول قولى هذا، بهذه المشروطية، لإن وسائل الإعلام الاجتماعى شجعت، وما زالت تشجع، ربما لأول مرة على هذا النطاق وبهذه الكثافة، أن تحول اللهجة العامية المنطوقة إلى لغة تواصل مكتوبة. وسبق أن أشرت في مقدمة كتابى “اقتباسات من الذات” أنه لو استمر هذا التوجه، وأصبح نمطاً، فلا يمكن استبعاد أن تصبح اللهجات العامية الدارجة لغات مفصلة في غضون قرون أو ربما حتى عقود قادمة، فالزمن يمضى بتسارع وتيرة التكنولوجيا وعصر المعلومات والاتصالات.
وكلما عقدت في ذهنى المقارنة بين هذا التوقع، الذى هو في حقيقته تخوفاً، وبين ما قرأته منذ ثلاثين عاماً في كتاب “بندكت أندرسن” المعنون “الجماعات المتخيلة” من أثر اختراع آلة الطباعة على تعزيز اللغات الدارجة/العامية الأوروبية vernacular مقابل اللغة الفصحى “اللاتينية” التي ظلت لسنوات قبلها حكراً على المتعلمين والمثقفين. فهل يكون لاختراع الجيل الحالي من التكنولوجيا، شبكة الانترنت المعلوماتية، ومنصات وتطبيقات الإعلام الاجتماعية، ذات الأثر على اللهجات العربية فتصبح كل منها لغة مستقلة في المستقبل القريب أو حتى المنظور، بتأثير ذلك الاجتماعى المحرك وطنياً وامتداده السياسى المزلزل إقليمياً؟ هذا التخوف انتابنى بشكل متواصل منذ عقد من السنين لكن تخوفت أكثر من نشره حتى هذه اللحظات، كوننى لستُ من المتخصصين في اللسانيات، وطالما أؤجل كتابة الأبحاث بل حتى المقالات، حتى استكمل القراءة والدراسات؛ وكم أجل هذا التوجه المتحفظ من نشر الكثير من الأفكار، حتى سبق بها آخرون أو ظلت خبيئة لدي في المخزون.
إذن، لماذا تخليتُ عن هذا التوجه المحافظ اليوم، ولم أستمر في تأجيل هذا المقال المُعد معظمه مسبقاً منذ أكثر من عقد من السنين؟ الإجابة هي في اطلاعى على الدراسة المرفقة للمفكر الدبلوماسي الصربى السويسرى “يوفان كورباليا” حول تطور استخدام رقم “زيرو”، وأقولها بخجل “الصفر”. لماذا أقولها بخجل، لأنه في المحادثات الشفهية في مصر، أصبح الجميع يستخدم “زيرو”، والبعض ينظر إلي شذراً عندما استخدم “صفر”، وهو أمر غريب فأنا نشأت في فترة الصبا والمراهقة في مصر، ولم أكن أتحدث شفهياً الفصحى في تلك الفترة، لكن كان جميعنا يستخدم “صفر” رغم كوننا في في مدارس أجنبية. أما الآن فقد اختلف الأمر، ربما، وليس يقيناً، بعد إصرار بعض شركات المحمول على استخدام “زيرو” بدلاً من “صفر” في حملاتها الإعلانية، لنشترك في خدماتها الاتصالاتية، بل وتسارع خدمة العملاء في تصيحيك لو أخطأت وأمليت عليهم الرقم بداية بالصفر “الخطاً” وليس “الزيرو” الصواب.
والسؤال يتبادر، إذا ما كان الصح هو الزيرو، باعتبار أن الصواب دوماً أجنبيًا، فلماذا استخدام النُطق الإنجليزي لهذا الرقم السحرى، رغم أن أول استخداماته في أوروبا كان نقلاً عن الأسبانية “ثيرو” ثم على الأرجح بعدها الإيطالية، وبعدها الفرنسية “زِرو” (أقرب إلى الكسرة) ثم الإنجليزية “زيرو” أقرب إلى الياء. فلماذا إذن نُصر على أن الإنجليزية هي المرجع الصحيح لنطق هذا الرقم بالعامية، بينما أن تلك اللغة على الأرجح كانت من أواخر اللغات الأوروبية (إذا صح التعبير دون الخوض في أعماق التأصيل بين اللسانيات اللاتينية/الرومانية والجيرمانية) في استجلاب هذا الرقم، رغم أن أصل الكلمة في جميع هذه اللغات الثرية هي اللفظ العربي “صفرُ” (بالضمة)، الذى كنا نستخدمه منذ زمن ليس ببعيد، منذ بضعة عقود فقط، أو ربما كان هذا زمن سحيق فالمسافة الزمنية تتضاعف أعواماً في عصر الانترنت؟
فما هي إجابة هذا السؤال البسيط قولاً العميق استفساراً؟ وقد كان يمكن محاولة الإجابة عليه في دراسة مأصلة التي إياها أفضل، وإليها أميل دائماً. لكن لم أرد الانتظار أكثر من ذلك، فالتأجيل هو نوع من الإهمال في مثل هذه الحالات، غير أن الإجابة لابد أن تكون من ذات البينة وفى ذات العينة الإلكترونية. الإجابة أعمق كثيراً من مجرد تطور لفظ أو نُطق في العامية أو الدارجة. الإجابة أعقد من مجرد اللغة حتى، بل هي حالة الثقافة والمعرفة، تعريف القومية والهوية. هناك ابتعاد تدريجى، يراه البعضُ ممنهجاً أو مُهندساً، عن الأصول الثقافية، وقبول دون انتقاء لكل ما هو وارد سواء كانت هناك إليه الحاجة أو انتفت. شعور بالدونية غير المبررة، ترويه في العديد من الحالات آلاف من المواقع الإلكترونية التي تحط من أي إنجاز للحضارة الناطقة بالعربية (أو التي كانت متحدثة بها إذا ما استقر الاتجاه الحالي في التخلي عن اللغة)؛ واستخدم هذا التوصيف لتفادى الجدل الأيديولوجى الذى يحرص البعض على إثارته بين ما هو عربى وأعجمى وإسلامى من منظور العرق والدين، أو الجغرافيا والتاريخ. وقد استقر هذا التوجه الاغترابى، لدرجة أن حتى المضمون الذى أصله، أو على الأقل تأصيله، عربياً، كـ”الصفر” قد أصبح بقدرة قادر “زيرو”.
وقس على ذلك في أمور عديدة أخرى، نعم قس على ذلك، فللحديث بقية.
إقرأ المزيد
تدشين كتاب ” بطرس غالي ” .. العربي الأفريقي والفرعون والأب الملهم بجنوب أفريقيا