الكاتب الغيني محمد قطرب باري يكتب : جدليّة الرقّ ما بين النص الشرعي والتاريخ البشري
الإسترقاق كان موجوداً في قديم الزمان ، وكان متغلغلا بين النّحل والملل مِن عصر اليونان والفراعنة والفرس وعند العرب ما قبل الاسلام .
وعندما أرسل الله نبيّ الرحمة ، الرسول العادل ، الصادق المصدوق ، كان ظاهرة العبودية متغلغلة في المجتمع العربي بصفة خاصّة والمجتمع البشري بصفة عامة ،وعندما نتأمّل بالسياق التاريخي سنجد أنّ الوحي بدأ – تدريجياًّ – في شخصنة كرامة الإنسان حيث قال الله في محكم التنزيل ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾[الإسراء:70]، القرآن تحدّث بكرامةٍ آدميّةٍ في هذه الآية بصرف النظر عن الطبقة الإجتماعية التي ينتمي إليها الإنسان ، بل قال ” ولقد كرّمنا بني آدم ” ، والصيغة القرآنية في هذه الآية تشمل جميع أبناء آدم عليه السلام باختلاف مناصبهم وجاههم، ومشاربهم وملابسهم وألوانهم وأديانهم.
وفي تحرير هذه الآية الكريمة يقول الدكتور عبد الله القيسي في كتابه العودة إلى القرآن :” وهذه الفكرة رسخها النبي عليه السلام في حياته العملية ، إذ جعل للإنسان القيمة الأعلى في هذه الأرض وجعل هدم الكعبة حجرا حجرا أهون من إراقة دمه بدون حق، ثم جاءت الحكمة العمرية التي رويت عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في إطار هذا التكريم: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا).
إعادة هيكلة النظام الاجتماعي
فكرة أخرى رسخها القرآن لإعادة هيلكة النظام الاجتماعي بقيم أخلاقية فأكد على فكرة المساواة، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13]. فهذا التنوع البشري بين الشعوب والقبائل غايته أن يتعارف الناس فينتسب كل فرد لذلك الشعب أو القبيلة، ليُعرف لا ليكتسب تميزاً عنصرياً، والأكرم عند الله من بين أولئك هو الأتقى، والأتقى هو غير الفاجر، والفاجر هو فجر حائط التقوى الذي كان يقيه من ارتكاب الشر والبغي والعدوان، فأصبح يبغي ويعتدي على الناس، أما المتقي فهو من لازال قائماً على ذلك السور الواقي له من أن يقع في البغي والعدوان.
كانت ظاهرة الرق من الظواهر الوقتية التي جاء الإسلام للقضاء عليها، نظرا لأنها تخالف رؤية الإسلام للإنسان والقيمة التي أعطاها له، وتخالف مبلغ التكريم الذي حظي به عن سائر الخلائق والذي رفعه عن أن يكون مسخرا لغيره يوجهه كيف يشاء، فالإنسان الذي يولد حرا لا بد أن يعيش حرا، وبالتالي يجب رفع الأسباب التي قد تؤدي به للوقوع في الاسترقاق، وهذا ما فعله الإسلام حيث ألغى كل أسباب الاسترقاق التي كان معمولا بها عند الأمم المذكورة سلفا، وجعل الأصل هو حرية الإنسان، فألغى اجتماعياً:
1-رق السرقة، وكان معمولاً بها في بعض المجتمعات.
2- رق الخطيئة، وكان معمولاً بها في بعض المجتمعات.
3- الاسترقاق للرجل أو لأولاده بسبب عدم القدرة على تسديد القرض الذي تضاعف بالربا، وكان موجوداً قي المجتمع العربي.
4- بيع الأولاد بسبب الفقر، وكان معمولاً به في المجتمع العربي.
5- الاسترقاق بعد الغارة على قبيلة أو قرية لنهبها، أو الاسترقاق بقطع الطريق.
6- الاسترقاق للرجال بسبب الأسر في الحرب، وهو من أهم الأسباب، حيث جاء الأمر القرآني لجعل مصير الأسير بين خيارين لا ثالث لهما، إما المن وإما الفداء، فقال تعالى ﴿حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ [محمد:4]. فمصير الأسير هو المن عليه لوجه الله، أو الفداءه بمال أو غيره، ولا خيار غير ذلك، إلا أن بعض الفقهاء للأسف اجتهد لاحقاً فأضاف للسلطان جواز الاسترقاق أو القتل، وهذا مخالف للنص القرآني الذي حصر المسألة بأداة الحصر “إما …وإما”، ولا تجوز الزيادة على ذلك.
ولأن هذه المسألة من المسائل المتجذرة في تلك الفترة كما ذكرت كان لا بدّ من التدرج في حلها حتى يسهل على المجتمع تقبلها ويسهل على العبيد أيضا الاندماج والعيش في المجتمع الجديد -مجتمع الحرية – الذي سينتقلون إليه، فبدأ الإسلام أولاً بمرحلة التحرير الروحي أو المعنوي للأرقاء، ثم جاءت ثانياً: مرحلة التحرير العملي وفتح أبواب التحرر.
أولاً: التحرير الروحي والمعنوي
كان ذلك عبر مجموعة من الأحكام تشعر الرقيق بأن له إنسانية مثل إنسانية مالكه، فله الحق أن يطعم من طعامه ويلبس من ملبسه ولا يكلف بما لا يطيق بل يجب الإحسان إليه، وكل الأحكام في القرآن عامة تشمل العبيد والأحرار إلا ما خص به الرقيق من أحكام -كانت تخفيفا عليهم – وهي محدودة جدا، وإن وسعت فيما بعد عليهم للأسف، فالعبد والحر تجري عليهما أحكام القصاص بشكل متساو ” النفس بالنفس ” كما تسري عليهما بقية الأحكام التي جاء فيها لفظ العموم دون تخصيص لأحدهم يقول الشيخ أبو زهرة ” إن المعنى الإسلامي العام المفهوم من مصادر الشريعة ومواردها أن الرق لا يفقد العبد آدميته فهي محرمة على قاتله سواء أكان مالكه أو غير مالكه، ولا شك في أن عدم القصاص من مالكه إهدار لمعنى الآدمية فيه، وذلك ما لم يقل به أحد من المسلمين، وإن كان الأكثرون من الفقهاء قد جرتهم الأقيسة الفقهية إلى مخالفة ذلك الأصل”( ) . كما جعل الإسلام للعبد الأهلية الكاملة في التصرف لأنه مخاطب كما الحر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أعطاه حق منح الأمان لفرد أو جماعة ﴿وإن أحد من المشركين استجارك فأجره﴾ والنص عام لكل مسلم حر أو عبد. ومثلها شهادته.. .. الخ، وللعبد حق التقاضي ومقاضاة سيده، وحق التصرف في البيع والشراء والهبة وغيرها كالحر تماما، وله الحق في تكوين أسرة بالزواج ولا يحق لسيده إكراهه على زوجة معينة، وله أن يمتلك المال ولا يجوز لسيده انتزاعه منه، كما حرم بعض الممارسات الخاطئة التي كانت تمارس عليهم كالبغاء وغيره.
ثانياً: التحرير العملي وفتح أبواب التحرر
اتخذت مرحلة التحرر العملي عدة أساليب لإنهاء تلك الظاهرة بصورة واقعية:
1- العتق بالمكاتبة: حيث رغب في المكاتبة وأوجبها على المالك إن طلبها الرقيق.
2- العتق بالكفارة: حيث جعل أول الكفارة على من لزمته أن تكون عتقا للرقيق، فأول الخيارات في أي كفارة على المسلم هي عتق أحد الرقيق، ومنها كفارة القتل الخطأ، إذ كان التحرير بمثابة إحياء نفس مكان النفس التي ماتت.
3- العتق بالترغيب: حيث رغب في العتق طواعية وقربة إلى الله، فجعل عتق الرقبة أحد المنجيات من عقبة الآخرة.
4- العتق من مصارف الزكاة: حيث جعل قسما من مصارف الزكاة في إعتاق الرقيق باعتباره واجباً على المجتمع ككل، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يرغب أصحابه باستمرار في عتق رقاب الرقيق، كما أنه-كما يقول الشيخ أبو زهرة -لم ينشئ رقا على حر قط وما كان عنده من رقيق الجاهلية أو ما أهدي إليه فقد أعتقه.
5- العتق بأم الولد: فإذا تزوجت الأمة من حر، ثم ولدت له ولداً، فإن لم يعتقها بحياته، فإنها تصير حرة بعد موته.
6- العتق بالاعتداء أو الإهانة: وأصلها أن المعاملة بين الرقيق ومالكه يجب أن تكون قائمة على المودة والرحمة والتعاطف.. كي يشعر الرقيق بكيانه، ويحس بإنسانيته، ويعي أنه إنسان مخلوق شأنه كشأن أي إنسان له حق الكرامة والحياة، فإذا تعدى المالك ذلك وتجاوزه كأن لطمه على خده أو ضربه كان كفارته لذلك عتق ذلك الرقيق، فصار هذا القانون حامياً للرقيق من أي انتهاك.
الظواهر الوقتية
ولأن ظاهرة الرق كانت من الظواهر الوقتية التي تنقضي بانتهاء أسبابها، سنجد أن الآيات القرآنية التي ذكرت ملك اليمين، جاءت كلها بصيغة الفعل الماضي، ” مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ “، “مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ”، “مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ”، وهذا يعني أن الآيات تعالج الحالات الموجودة سابقاً دون استحداث حالات جديدة، فتأتي تلك المعالجات المذكورة أعلاة كي تنهي الظاهرة بتدرج يراعي حالة الرقيق قبل مالكيهم.
وقد اتبع الإسلام الطريقة التدريجية تلك في تحرير الرقيق حتى لا يوقع الرقيق ومالكيهم والمجتمع في الحرج، فلو أنه أعتقهم جميعا من أول يوم للحق الحرج والضرر بهؤلاء الأرقاء قبل غيرهم، وما حصل من حرج عند تحرير العبيد في أمريكا في بداية القرن الماضي من قبل إبراهام لنلوكن يؤكد ذلك، فالإسلام يعلم الرقيق الحرية قبل منحها لهم، حتى إذا أعتقوا عرفوا كيف يعملون ولا يتمنون أو يطلبون العودة إلى الرق.
لا يوجد في القرآن سبي ولا دعوة للرق، وأي رواية تدّعي السبي في زمن النبي فهي مكذوبة، فالنبي عليه السلام لا يخالف رسالته، وما حصل أيام ما سمي بالفتوحات لم يكن سبياً للمجتمعات المفتوحة، وإنما دخلوا على بلدان كانت تنتشر فيها أسواق الرقيق بشكل كبير فتم شراء الجواري بأعداد كبيرة ثم نقلها إلى المجتمعات العربية، وهذا فعل خاطئ يخالف القرآن الكريم، ولكنه ليس كما يدعيه البعض من تحويل البلدان المفتوحة إلى سبايا، لأن الرقم سيكون مهولاً لو فعلاً تم التعامل مع البلدان المفتوحة بتلك الطريقة.
كما أن تلك البلدان لم تدخل مباشرة الإسلام مما ساعد على بقائها وعدم تعمق تلك القيم عندها، إذ بقيت لقرنين أو أكثر على أديانها السابقة حتى تحولت للإسلام، ففارس مثلاً لم يكن الإسلام ديناً لأغلب المجتمع إلا بعد مرور قرنين من الزمن.
كانت هذه هي الصورة الأخلاقية التي رسمها الإسلام حتى تنتهي تلك المسألة بشكل نهائي، لكن تلك الصورة اخترقت باجتهادات فقهية خاطئة أحياناً كإجازة الاسترقاق في الحرب للمقاتل وغيره، وهذا اجتهاد معارض للنص القرآني كما ذكرت من قبل، واخترقت أيضاً بأفعال خاطئة عبر الشراء والبيع لعدد كبير من الإماء والعبيد، وكان للسلطات السياسية دور في انتشار تلك الظاهرة.
والخلاصة أن لدينا قيمة أخلاقية إسلامية ولدينا أفعال وممارسات تاريخية، والتاريخ لا يمثل الدين ولا هو جزء منه، فالدين قيم عليا والتاريخ أعمال وسلوكيات بشرية تقترب أحياناً من تلك القيم وتبتعد أحياناً أخرى، وعلينا محاكمة كل سلوك تاريخي إلى تلك القيم، على تكون تلك المحاكمة أو المساءلة في سياق ما يثبت تاريخياً، أما وأحداث التاريخ ليست بذاك اليقين فإن هذا يجعلنا نتخفف قليلاً من تلك الإدانة التي وصلت مرحلة الجلد للذات، أو من حالة الانتشاء تلك التي لا تجعلنا نعترف بأي خطأ في التاريخ”
- محمد قطرب باري .. كاتب غيني
إقرأ المزيد :
الكاتب الغيني محمد قطرب باري يكتب : جدليّة انتساب أصل الفولان إلى العرب .. عرضٌ واستعراضٌ ونقدٌ