الكاتبة الصحفية التونسية حبيبة الماجري تكتب : زمن الإرهاب الإعلامي الديمقراطي
في خضم الحرب المستعرة وحمى الإبادة الجماعية التي تحصد الأرواح بلا حساب، تدور أمام أبصارنا رحى حرب أخرى ضروس، لا تقلّ أذى عن تلك التي تسفك الدماء وتقطع الأوصال , إنها حرب الإعلام الغاشمة وغير المتكافئة.
إن مجرد جولة بسيطة في انعطافات أغلب وسائل الإعلام العالمية الكبرى النشيطة صلب الديمقراطيات الغربية العريقة، تملؤنا حيرة وتسائل عن دور غير معلن، ولكنه بيّن، تؤديه منصّات أكبر وسائط الإعلام الدولية، تحت غطاء من الحرفية العالية، للسيطرة على الأفراد وجرّهم لإعتناق رؤية حكوماتها مهما عظم غيّها. فتجتهد مجتمعة، فيما يشبه الإرهاب الإعلامي الموشح بالديمقراطية، للقضاء على جميع الأفكار التي تحيد عن النهج الذي رسمته. ويمثل هذا الصنف ، رغم بعض الاستثناءات القليلة، النسبة العظمى ولعلّه اكثره تأثيرا واعمقه وقعا.
فعندما تعمد الس. أن. أن (CNN) على سبيل المثال، إلى نشر الأخبار الزائفة حول قطع الرؤوس والتنكيل بالحوامل، ويهرع رئيس الولايات المتحدة ليكرر على الفور، ادعاءاتها، يحق لنا أن نتساءل عن نوعية العلاقة الخنائية القائمة بين عالم السياسة وعالم الإعلام في أكبر ديمقراطية في العالم , وليس هذا هو المثال الوحيد الذي يمكن الاستشهاد به ، ولن يكون بالتأكيد الأخير، المدجج بالأراجيف التي تسوقها وسائل الإعلام المهيمنة يوميا، وهي التي اقنعت الكثير منا بانها الراعية للاستقلالية والموضوعية والحاملة لشعلة الديمقراطية، بينما تثبت البراهين انها ليست في احسن الأحوال سوى أداة دعاية وخداع للجماهير الطيبة.
لقد اصبح تصنيف البشر واعتماد المعايير المزدوجة قاعدة مطلقة لدى صحافة الغرب “الديمقراطي”. فهناك السادة المتفوقون دائما وهنا التلاميذ الأبديون، هؤلاء يأمرون وأولئك وجب عليهم السمع والطاعة , لهؤلاء الحق في الحياة وأولئك تقرر أن ينحنوا والا يختفي اثرهم ولو كانوا ملايين. نسمع على شاشاتهم ان القنبلة التي تنعت بالعمياء القاتلة عندما تغتال أوكرانيا ، تصبح “حقا في الدفاع عن النفس” عندما تكون الضحية فلسطينية. هذا هو الحال احب من أحب وكره من كره. ومن يخالف الأوامر يقذف به بسرعة البرق في بوتقة نظريات المؤامرة ويتم اتهامه بالإرهاب أو معاداة السامية ، ويتم إسكات صوته إلى الأبد في كل وسائل إعلامهم الديمقراطية.
وتعمل “شرطة الفكر” بوجوه مكشوفة دون كلل وبكل يقظة وحزم على تتبع “جرائم الفكر” على القنوات التلفزيونية الدولية الرئيسية ، وكذلك وبأعداد أكبر بكثير، على شبكة الإنترنت ، تلك التي وعدت ذات يوم بتوسيع مجال الحرية من خلال إعطاء صوت لمن لا صوت له, فيسهر المراقبون بحماس وبكل برودة دم، على تقييد حرية التعبير وحتى نسفها بإغلاق كل حساب يغامر صاحبه بالهروب من “الواقع الشمولي المرير “. وتعمل الأيديولوجية القمعية بمنهجية على إزاحة كل الأفكار غير المريحة لها لتصبح حرية الرأي والتعبير، التي قالوا إنها عماد الديمقراطية، قائمة على الطاعة العمياء للتغطية المتحيزة والأحادية الجانب التي يفرضها ممثلو شركات الإعلام الكبرى , فقد كشف المنتدى الأمريكي للقانون والحقوق والأمن القومي الأمريكي، في هذا الصدد، أن مستخدمي منصة انستاقرام اكتشفوا أن “تصنيف إرهابي” أضيف إلى السيرة الذاتية باللغة الإنجليزية لكل مستخدم تضمنت سيرته الذاتية باللغة العربية لكلمة “فلسطيني” أو لرمز تعبيري للعلم الفلسطيني أو حتى العبارة العربية الشائعة “الحمد لله”.
وحتى لو قبلنا، من باب الأمانة العلمية، إن وسائل الإعلام الغربية لا تشكل جميعها كتلة متجانسة ، وحتى لو تفردت قلّة منها، تظل الحقيقة دالة على أنها بكل تنوعها وبجميع وسائطها، لم تعد تهتم بالمبادئ الأخلاقية وتعمد الى تشكيل الرأي العام خارج السياق وخارج المنطق, فتنقل مفاهيم خصوصية ومختزلة لا تدمج التنوع الثقافي والروحي لجميع شعوب العالم، ولا ترى لها اية إضافة ولا فائدة تذكر ,كما يرشد الواقع بالمقابل ، وهذا ما يحز في النفس ويكسر الخاطر، ان “الضحية” من المفعول بهم، وخاصة منها النخبة من أهل العلم والمعرفة، مازالت تهوى جلادها وتقدس رواياته الوردية، غافلة أو متغافلة على أن سلاح الاعلام في عالمنا الحالي أشد فتكا واعمق ضررا من سيول القنابل. إنه يسبي الأرواح ويقتل الإرادة لأجيال.
- حبيبة الماجري .. الكاتبة الصحفية التونسية والمديرة السابقة لإدارة الاعلام والاتصال للاتحاد الافريقي.
إقرأ المزيد :