لحسن العسبي يكتب : المرابي بنيامين نتنياهو ولعبة الشطرنج الكبرى
لمن يتتبع بتواتر (وتراكم معلومات) تطورات ما يحدث في فلسطين وشرق المتوسط، لا بد أن يتساءل عن السبب وراء تحول طفيف في الموقف الفرنسي منذ ثلاثة أسابيع تجاه رئيس الوزراء الإسرائيلي المتطرف بنيامين نتنياهو، الذي ابتدأ في الإعلام (كان مثيرا مثلا أن تقوم أكثر القنوات التلفزية الفرنسية المناصرة لإسرائيل LCI التابعة لمجموعة TF1، التي ممنوع فيها مرور أي صوت فلسطيني كيفما كان لونه السياسي، بعرض برامج وثائقية مصورة عن الوضعية الإنسانية الخطيرة بغزة، بل بلغ بها حد مقارنة غزة بحال المدن الأوروبية في الحرب العالمية الثانية خاصة برلين وستالينغراد..)
أقول ابتدأ في الإعلام وبلغ ذروته بتهديد الرئيس الفرنسي ماكرون بتعليق تزويد السلاح الفرنسي لإسرائيل ما دام نتنياهو لا يريد وقف إطلاق النار في غزة.
بالتالي، كبر السؤال عن السبب في ذلك التحول الطفيف في الموقف الفرنسي.
قد يذهب بعض الجواب إلى حساسية الموقف الفرنسي تجاه الملف اللبناني، الذي لا ترى باريس بعين الرضى إلى التصعيد المسلح فيه بين حزب الله ونتنياهو، مع ما لذلك من مخاطر تدويل الصراع في أفق إقليمي مع إيران.
كل ذلك صحيح ووارد، لكن يظهر حسب معطيات أخرى أن فرنسا كانت جزء من حل أمريكي عربي إيراني لكامل خريطة الشرق الأوسط الجديد في القلب منه الملف الفلسطيني، تطورت الأمور فيه حسابيا بسبب تراخي السياسة الخارجية الأمريكية تحت ضغط الانتخابات الرئاسية المرتقبة في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر القادم، نحو تسريع جماعة نتنياهو لسياسة الأمر الواقع بشكل تصعيدي عبر انتهاج خطة هجوم تعتمد منطق الأرض المحروقة لتصفية كل رموز قيادات المقاومة في فلسطين وقيادات الجماعات التابعة لإيران في المنطقة (بعد حزب الله بلبنان دور الحوثيين باليمن قادم) ، مما خلخل مسلسلا تفاوضيا كانت تُنسجُ خيوطه في الظل، ظلت طهران طرفا رئيسيا فيه وكذا عواصم عربية وازنة (الرياض والقاهرة).
كان من ضمن ذلك المخطط التفاوضي تحديد مصير قيادات حماس بغزة، الذي كانت باريس طرفا محوريا فيه ، بدليل ما نشر في عدد من آخر أيام أبريل الماضي (إن لم تخني الذاكرة) بيومية لوموند الباريسية من قصاصة خبرية صغيرة تلمح لإمكانية نقل قيادات الداخل الحمساوي بغزة إلى بلد عربي (فُهم من سياقات اتصالات خليجية مغاربية حينها أنها عاصمة مغاربية) ، كان في مقدمتهم الشهيد يحيى السينوار وعائلته وعدد آخر من قيادات الداخل بغزة.
مسار التفاوض في القاهرة (باتجاه الرياض ودول الخليج) والدوحة (باتجاه طهران) بالتقاطع مع عواصم مغاربية، جعل أمور التنازلات من هنا وهناك ضمن مخطط أكبر لوقف إطلاق النار تشمل تبادل الأسرى وإطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين في مقدمتهم مروان البرغوثي، مع إدخال الحسابات الإيرانية ضمن خريطة الشرق الأوسط الجديد، تأخذ وقتا طويلا أكثر من المنتظر، امتد حتى جاءت طاحونة التنافس الانتخابي الرئاسي الأمريكي, مما جعل الأمور تتطور بحسابات جديدة بين طهران وتل أبيب عبر البوابتين اللبنانية واليمنية، بالتوازي مع تسريع نتنياهو وجماعته العسكرية المتطرفة لمخطط خلق أمر واقع ميداني جديد من خلال تنفيذ تصعيد عسكري مخابراتي دقيق لتصفية نهائية لقيادات وأطر حماس وحزب الله بالشكل الذي يجعلها خارج مجالات التأثير في الساحة.
تطورات هذا الواقع خلخلت بقوة مستوى أثر باريس فيما يُصنعُ من واقع هناك، فجاء ردها الغاضب (المحتشم)، كونَ ذلك يُعزِّزُ أكثر من تراجع قوة نفوذها عالميا كما يسجل في جغرافيات أخرى، في مقدمتها إفريقيا وجنوب آسيا المندرجة ضمن المجال الفرنكفوني (كما لو أصبحت باريس لسانا بدون ذراع.
الخلاصة هنا هي أن نتنياهو كمرابي يحسب حسابات الربح الآنية والخاصة فقط، استغل فرصة الانتخابات الأمريكية ليخلق عناصر واقع جديد تُفرَضُ نتائجها على الجميع في أي تفاوض قادم بعد دخول رئيس (أو رئيسة) جديد إلى البيت الأبيض الشهر القادم، ضمن لعبة شطرنج كبرى كما سبق ورسم طاولتها بأفق أوراسي (أروبي – آسيوي) خبير استراتيجي من قيمة مستشار الأمن القومي الأمريكي زبيغينو بريجنسكي في كتابه الشهير “رقعة الشطرنج الكبرى”.
المقلق اليوم هو التخوف أن يغامر نتنياهو ضمن نفس الحساب الخاص به إلى تصعيد ضد إيران قد يشعل نارا لا أحد يمكنه التكهن بمداها بالمنطقة وبالعالم، حيث المخاطر جدية ضد دول الخليج العربية النفطية ،مثلما المخاطر جدية حول المعابر الحيوية للتجارة الدولية وللنفط من قبيل مضيق هرمز ببحر الخليج العربي وباب المندب عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر ، بما سيكون لذلك من أثر على ثمن برميل النفط عالميا، واشنطن غير متحمسة له بالمرة (لأن الرابح فيه ستكون هي روسيا بوتين).
عربيا، يسجل تحرك مصري سعودي تجاه طهران وتجاه واشنطن (وبالاستتباع تجاه تل أبيب)، بحسابات الأمن القومي الكبرى لدول الخليج ومصر ترجمه اللقاء بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي, في مقابل بروز محور غربي جديد بين برلين ولندن وواشنطن (متجاوز لحسابات باريس التقليدية في لبنان والشام ، وهذا بعض من التفسير في الغضب الفرنسي من نتنياهو)، بأفق حسابات رقعة شطرنج كبرى لصناعة شرق أوسط جديد، من ضمن استراتيجيته تطويق وتقليم “طريق الحرير والتجارة” الصينية وتطويع الطموح الروسي لخلق موقع قدم ضمن أوروبا الكبرى (موسكو تعتبر نفسها دوما جزء من المشروع الحضاري الغربي الأوروبي).
هو إذن سباق تسارع لخلق وقائع جديدة على الأرض هناك بالشرق الأوسط، نجح نتنياهو كمرابي يلعب لعبة قمار كبرى في أن يستغل فيه الفراغات بحسابات إسرائيلية محضة، أقلقت واحدا من كبار حلفاء تل أبيب بالغرب هي باريس، مثلما تقلق (على الأقل في ظاهر الخطاب) جزء من تيار الديمقراطيين الأمريكيين في شخص المرشحة كامالا هاريس. والفاتورة للأسف يؤديها الشعب الفلسطيني الأعزل (من أعطاب مرحلته النضالية منذ 2002 تشتت نخبه السياسية والنضالية وعدم توافقها حول خطة طريق وطنية للتحرير والإستقلال)، ثم الشعب اللبناني ضحية منطق الطائفية الداخلية به الذي قوض وجود الدولة اللبنانية نفسها.
اقرأ المزيد
الكاتبة الصحفية التونسية آسيا العتروس تكتب : صحفيو غزة هدف للاحتلال ” إزالة الشهود لا يخفي الجريمة