الكاتبة الصحفية التونسية حبيبة الماجري تكتب : الصحافة ليست جريمة .. الصحافة مهنة .. ولكنها ليست ككل المهن
أنا ، مثل الكثيرين، لا أحب مقالات التجريم، وارفض وبنفس الصرامة، الكتابات الوردية الممجّدة. هذا النوع من المقالات فاشل عقيم لا يساهم بأي شيء إيجابي في قضايا الشعوب.
ولكن ماذا لو تحولت الصحافة إلى أداة لتوحيد الرؤى وتسطيح الاختلاف ورفض التباين؟ ، ماذا لو أصبحت مهنة الصحافة معارضة صرفة، منبتّة، غير آبهة بما يفتعل حولها، تتغذى فقط على نقد كل ما لا يتماهى مع واقع جذاب، ولكنه مستورد، لا جذور تنعشه ولا عود يستند اليه، غريبة عن السياق الذي تتحرك فيه هي ذاتها؟
ماذا لو عمّت القناعة عند أهل المهنة أن الصحفي الألمعي، الصنديد الذي لا يشق له غبار، هو الذي يحذق التفنن في اغراق النصل بشراهة في خصر الوطن، فيسكب دمه ويعرى سوءاته ويشهّر بجهوده كلما فشلت مؤسساته الهزيلة، الصغيرة الناشئة، في اللحاق بركب من سبقوه من الدول العظمى والتقدم في ظلها والتدثّر بلحافها أو رفضت، رغم ضعفها وقلة حيلتها، الانخراط في فلكها والانصياع لأوامرها وإدارة شؤونها وفق امكانياتها وحسب إيقاعها الخاص؟ فيتحول العمل الصحفي المعترف به، خاصة من قبل الأوساط الخارجية المتحكمة في كيفية إدارة المشهد الاعلامي، إلى مجرد عداء مقيت ومتواصل للسلط القائمة، بعيدا كل البعد عن النقد البناء، يلعب فيه الصحفي دور المحقق الشرس، بتجاهل تام للسياقات والتحديات. ويصبح البحث عن الاثم لديه الهدف والوسيلة التي يكرس كل جهده لتثبيته.
وماذا لو، على الناصية المقابلة، يتحول الصحفي، الذي تجرفه الأمواج الوطنية، إلى مشوه محترف للواقع، إما عن طريق تقليل الهزائم أو عن طريق تضخيم النجاحات، انطلاقا من رغبة مفرطة في طمأنة الجمهور بالأخبار السارة ولو أتت بناءا على اخبار مزيفة، ودون الاستناد إلى حقائق ملموسة ومثبتة ومدققة ومحققة، فيتسبب، عن قصد أو عن غير قصد، في احداث الضرر للقضية أو الرؤية التي يظن أنه يدافع عنها، خاصة في وقتنا الحالي الذي يلعب فيه انتشار أشكال متطورة من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات دورا فاعلا في تعرية الحقائق بمشاركة النصوص أو الصور أو مقاطع الفيديو أو الروابط عبر الإنترنت، في غضون ساعات قليلة.
الصحافة كانت ولازالت مهنة المتاعب، ليس في ذلك شك. ولهذا فهي، خلافا عن غيرها من المهن الاخرى، تفترض التحلي بأكبر قدر من الالتزام والتدقيق، والنزاهة، والصدق، والتجرد. وجب عليها لزاما أن ترى بعينين اثنين وتصغي بعقل راجح وبمشاعر صادقة، علا وعسى تتمكن من سبر أغوار الحقيقة الكامنة وراء الحقائق المتعددة.. ما عدى ذلك يتحول الصحفي، كما اصبحنا نرى هنا وهناك، إلى مكلف بمهمة، ناطق باسم مشغله، مجرد كاتب عمومي ملقن (بفتح القاف) يعيد فقط ما يمليه عليه صاحب الأمر، سيّان كان من الداخل أو الخارج، ولو اتى ذلك بقوالب جميلة منمقة نتيجة اتقان فن الكتابة والمقدرة على ترويض اللغة او امتلاك التقنيات الحديثة المستوردة، والتحكم في استعمال ما افرزه التقدم التكنولوجي من وسائل وبرمجيات عدّة.
ولقائل أن يقول أن الصحفي إنسان وهو ككل مخلوق نتاج لتجاربه الخاصة يحمل وزر رؤاه وعقده وتوقه لحياة مادية أفضل، وله كل الحق في ذلك.. ولكنه مطالب، في أداء عمله الصحفي الذي اختاره، بالتعمق في فهم واقعه ونزع الأنا الطاغية والتجرد من المسلمات الشخصية الموروثة والمكتسبة، وعدم الاستكانة للذة المادة والربح الوفير، حتى يتمكن من صياغة المشهد بأكبر قدر من الكمال والصدقية . لأن الانسياق الأعمى وراء سرديات لا تعبر عن واقعه والترويج لها ومحاولة فرضها كحقيقة سرمدية، يمثل خطا منهجيا ومهنيا جسيما، يعتبر في اخلاقيات المهنة الصحفية، خيانة موصوفة، مهما كانت المسببات السيكولوجية، او المذهبية، او السياسية، او الاقتصادية.
إن التركيز على جوانب من المشهد العام دون غيرها، إيجابية كانت او سلبية، يمثل غدرا للأمانة الصحفية وتجني على واقع الناس الذي، من المفروض، ان يكون الصحفي يشتغل لفائدتهم ولفائدتهم فقط، والا اصبح العمل الصحفي بروبقندا قبيحة، ودعاية بشعة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتصور أنها مجانية وغير مدفوعة الأجر.
أجل، الصحافة ليست جريمة. هي ليست جريمة ولن تكون، طالما فهم الصحفي دوره وأدى عمله حسب ما تمليه عليه خصوصيات المهنة واخلاقياتها. وإن كان عكس ذلك فان الخطر داهم، منذر بموت غير رحيم، نتيجة تدفقات معلومات شبكية سريعة ووفيرة تسكب أطنانا من البيانات فيها الغث وفيها السمين، تستقطب الجماهير العريضة وتجعلها تدير ظهرها للصحافة والصحافيين.
* حبيبة الماجري .. كاتبة صحفية تونسية.
إقرأ المزيد
الكاتبة الصحفية التونسية حبيبة الماجري تكتب : زمن الإرهاب الإعلامي الديمقراطي