رامي زهدي يكتب : مصر وجيبوتي.. شراكة استراتيجية في قلب القرن الإفريقي

في مشهد يعكس عمق التوجه المصري نحو تعزيز الحضور والتأثير في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر، جاءت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى جيبوتي في الثالث والعشرين من أبريل 2025، لتشكل محطة محورية في مسار الشراكة الاستراتيجية بين القاهرة وجيبوتي .. لم تكن الزيارة بروتوكولية أو اعتيادية، بل حملت معها رسائل واضحة وأهدافًا محددة تتجاوز العلاقات الثنائية لتلامس أبعادًا إقليمية ترتبط بمستقبل الأمن القومي المصري والأمن الجماعي في منطقة شديدة الحيوية والتعقيد.
جيبوتي هي بوابة القرن الإفريقي ومفترق طرق دولي، حيث تقع جيبوتي في موقع بالغ الأهمية على مضيق باب المندب، وهو أحد أهم الممرات البحرية في العالم، مما يجعل استقرارها السياسي والأمني ضرورة استراتيجية لمصر التي تدرك تمامًا أن أمن البحر الأحمر لا يتجزأ، وأن أي تهديد في جنوبه ينعكس على شماله مباشرة .. كما تمثل جيبوتي مركزًا حيويًا للربط بين إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، ومرتكزًا للوجود الدولي، حيث تستضيف قواعد عسكرية من قوى عالمية كأمريكا وفرنسا والصين.
من الاقتصاد إلى الأمن مرورا بأوجه التعاون المختلفة وتوافق الرؤي ، كان البيان المشترك الصادر عقب القمة المصرية الجيبوتية والذي عكس مدى التنوع في مجالات التعاون التي تناولها الرئيسان، حيث جرى التوقيع على عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم في مجالات الطاقة، الدفاع، مكافحة التطرف، التعليم، الري، الصحة، التجارة، الإعلام، والاتصالات.
ويبرز بشكل خاص توقيع اتفاق لإطلاق برنامج مشترك لتحقيق أمن الطاقة في جيبوتي، يعكس انفتاح مصر على تصدير نموذجها في تطوير قطاع الطاقة وتحقيق الاكتفاء الذاتي، مستثمرة خبرتها في الطاقة المتجددة، خاصة في مشروعات الكهرباء الشمسية والربط الكهربائي.
كما شهدت الزيارة توافقًا مصريًا جيبوتيًا بشأن ضرورة الحفاظ على استقرار البحر الأحمر، ورفض أي محاولات لزعزعة حرية الملاحة فيه، وهو تأكيد على الخط الأحمر الذي تضعه مصر لحماية ممرها الملاحي الحيوي المؤثر على قناة السويس.
ويظل الأمن الإقليمي خاصة ملفات الأمن في السودان والصومال ككجزء هام في قلب التنسيق المشترك، فالملف السوداني كان حاضرًا بقوة في مباحثات الرئيسين عبد الفتاح السيسي وعمر جيله ، في ضوء موقع جيبوتي الجغرافي القريب من شرق السودان، واستضافة جيبوتي لمقر منظمة الإيجاد المعنية بأمن واستقرار القرن الإفريقي. وقد تم التأكيد على أهمية وقف إطلاق النار في السودان، ودعم وحدة أراضيه، والتنسيق بين البلدين في الدفع نحو حلول سياسية مستدامة.
كما ناقش الرئيسان تطورات الوضع في الصومال، ومخاطر امتداد الاضطرابات إلى عمق القرن الإفريقي، وأهمية دعم المؤسسات الوطنية الصومالية، بما يعزز مناعة الدول الإفريقية في مواجهة مخاطر الانقسام والانهيار.
وحملت الزيارة رسائل إقليمية ودولية هامة بأن مصر لا ولن تترك فراغًا، حيث جاءت الزيارة برسائل متعددة، أولها أن مصر تواصل دورها التاريخي في إفريقيا ليس فقط كشريك تنموي، بل كفاعل رئيسي في هندسة الأمن الإقليمي. ففي وقت تسعى فيه قوى إقليمية ودولية لملء الفراغات في شرق إفريقيا، تأتي القاهرة لتؤكد أنها تملك رؤية مستقرة للعلاقات الإفريقية الإفريقية، ترتكز على المصالح المشتركة لا الهيمنة، وعلى التنمية لا الاستغلال، وتؤكد مصر من خلال هذه الزيارة أنها شريك موثوق يسعى لدعم الاستقرار دون أجندات خفية، في وقت تتصاعد فيه التدخلات الأجنبية تحت لافتات مكافحة الإرهاب أو حماية الملاحة، بينما تعمل مصر على تثبيت دعائم السلام والتنمية بالتعاون مع الدول الشقيقة.
ويظل اقتصاد البحر الأحمر بوابة لتكامل وآفاق تعاون واعدة، فكان من أبرز ما تطرحه هذه الزيارة على المدى المتوسط والبعيد، هو إمكانية تدشين شراكة اقتصادية مصرية جيبوتية، تنطلق من الموانئ والتجارة والخدمات اللوجستية، لتخلق محورًا اقتصاديًا جديدًا يمتد من قناة السويس شمالًا إلى باب المندب جنوبًا، خاصة في ظل ما تمتلكه جيبوتي من موانئ متطورة، وما تطمح إليه مصر من توسعة نفوذها التجاري في شرق ووسط إفريقيا.
كما أن تعزيز الربط البحري والجوي بين مصر وجيبوتي يمكن أن يجعل الأخيرة نقطة ارتكاز للمصانع المصرية أو منصات التوزيع باتجاه أسواق شرق إفريقيا، خاصة مع اتفاقيات التجارة الحرة القارية.
اللافت أيضًا في هذه الزيارة هو تركيزها على الجوانب غير المادية من الشراكة، كالثقافة والتعليم والدين، وهو ما يؤكد أن مصر تسعى لتعزيز نفوذها الناعم في القارة، من خلال إيفاد الأئمة والدعاة، وتقديم منح دراسية، وتوسيع برامج التدريب المهني، وهي أدوات أثبتت جدارتها في تعزيز الروابط التاريخية والثقافية مع شعوب القارة.
أخيرا، جيبوتي ليست محطة عابرة، بل إن زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى جيبوتي، في هذا التوقيت، ليست زيارة عابرة، بل تأتي ضمن رؤية استراتيجية متكاملة للتقارب المصري مع دول حوض البحر الأحمر والقرن الإفريقي، في وقت تموج فيه المنطقة بتحولات كبرى.
إنها رسالة دعم وتقدير متبادل بين بلدين شقيقين، ورهان على المستقبل، واستثمار سياسي واقتصادي في استقرار المنطقة. والأهم أنها تعكس بوضوح أن القاهرة قررت أن تبقى لاعبًا أساسيًا في معادلات القرن الإفريقي، بشراكات عادلة، وأدوات تنموية، ووعي استراتيجي لا يغيب عنه الأمن القومي المصري.
- رامي زهدي – خبير في الشؤون الأفريقية والسياسية والاقتصادية
إقرأ المزيد :
الرئيس السيسي ونظيره الجيبوتي يؤكدان رفضهما تهديد أمن وحرية الملاحة في البحر الأحمر